مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو أن نفرا يسيرا قليلي العدد ويعرف أن مثلهم لا يمتنع إذا أريدوا ، فأظهروا آراءهم ونابذوا الإمام العادل وقالوا : نمتنع من الحكم فأصابوا أموالا ودماء وحددوا في هذه الحال متأولين ، ثم ظهر عليهم ، أقيمت عليهم الحدود وأخذت منهم الحقوق ، كما تؤخذ من غير المتأولين " .
قال
الماوردي : وهذا صحيح ، إذا
قل أهل البغي ولم ينفردوا بدار ، ونالتهم القدرة ، ولم يمنعوا عن أنفسهم بكثرة وقوة لم يؤثر ما تأولوه في سقوط الحقوق عنهم ، وإقامة الحدود عليهم . فقد كان
عبد الرحمن بن ملجم من أسوأ البغاة معتقدا ، وأعظمهم إجراما ، قال -
وعلي كرم الله وجهه يخطب على المنبر
بالكوفة - : والله لأريحنهم منك . فأخذه الناس وحملوه إليه ، وقالوا : اقتله قبل أن يقتلك ، فقال : كيف أقتله قبل أن يقتلني ؟ وخلى سبيله ، فبات له في المسجد ، فخرج
علي عليه السلام لصلاة الفجر مغلسا .
وقيل : إنه أنشد بالاتفاق قول الشاعر :
[ ص: 113 ] اشدد حيازيمك للموت فإن الموت آتيك ولا تجزع من الموت
إذا حل بواديك
وأحرم بركعتي الفجر ، فأمسك
ابن ملجم عنه في الركعة الأولى حتى قدر ركوعه وسجوده ، ورأى سجوده أطول من ركوعه ، وكذا السنة . فلما قام إلى الثانية ضربه في سجوده ضربة فلق بها هامته .
فقال
علي : فزت ورب
الكعبة .
وأخذ
ابن ملجم فحمل إليه ، وقيل له : اقتله قبل أن يقتلك .
فقال : كيف أقتله قبل أن يقتلني ؟ إن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت ، وإن شئت استقدت ، وإن مت فقتلتموه فلا تمثلوا ، وأن تعفوا أقرب للتقوى .
وكان في شهر رمضان ، فلما جاء وقت الإفطار ، قال : أطعموه وأحسنوا إساره ، وكان أول من قدم إليه الطعام في داره
ابن ملجم .
فلما مات قتله
الحسن بن علي قودا .
قال
الشافعي : وفي الناس بقية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أنكر قتله ولا عابه أحد .
فدل على فرق ما بين الامتناع والقدرة .
ولأن سقوط القود في الامتناع والكثرة إنما هو للحاجة إلى تألفهم في الرجوع إلى الطاعة ، والمنفرد مقهور لا يحتاج إلى تألفه ، فلذلك وقع الفرق بين الممتنع وغير الممتنع .