مسألة : قال
الشافعي رحمه الله : " والفيئة الرجوع عن القتال بالهزيمة أو الترك للقتال ؛ أي حال تركوا فيها القتال فقد فاؤوا وحرم قتالهم : لأنه أمر أن يقاتل ، وإنما يقاتل من يقاتل ، فإذا لم يقاتل حرم بالإسلام أن يقاتل ، فأما من لم يقاتل فإنما يقال : اقتلوه لا
[ ص: 115 ] قاتلوه . نادى منادي
علي رضي الله عنه يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، وأتي
علي رضي الله عنه يوم
صفين بأسير ، فقال له
علي : لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين ، فخلى سبيله والحرب يوم
صفين قائمة ،
ومعاوية يقاتل جادا في أيامه كلها منتصفا ، أو مستعليا ، فبهذا كله أقول وأما إذا لم تكن جماعة ممتنعة فحكمه القصاص ، قتل
ابن ملجم عليا متأولا فأمر بحبسه ، وقال لولده : إن قتلتم فلا تمثلوا ، ورأى عليه القتل ، وقتله
الحسن بن علي رضي الله عنه ، وفي الناس بقية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما أنكر قتله ولا عابه أحد ، ولم يقد
علي - وقد ولي قتال المتأولين - ولا
أبو بكر من قتله الجماعة الممتنع مثلها على التأويل على ما وصفنا ولا على الكفر ، وإن كان بارتداد إذا تابوا ، قد قتل
طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ، ثم أسلم فلم يضمن عقلا ولا قودا ، فأما جماعة ممتنعة غير متأولين قتلت وأخذت المال ، فحكمهم حكم قطاع الطريق . ( قال
المزني ) رحمه الله : هذا خلاف قوله في قتال أهل الردة : لأنه ألزمهم هناك ما وضع عنهم ههنا ، وهذا أشبه عندي بالقياس " .
قال
الماوردي : وأصل هذا : قول الله تعالى :
فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [ الحجرات : 9 ] .
فكان قوله : فقاتلوا يتضمن الأمر بقتالهم لا بقتلهم .
وقوله :
حتى تفيء إلى أمر الله هو الغاية في إباحة قتالهم .
والفيئة في كلامهم : الرجوع ، وهو على ثلاثة أضرب تتفق أحكامها وإن اختلفت أنواعها :
أحدها : أن
يرجعوا إلى طاعة الإمام والانقياد لأمره ، فهو غاية ما أريد منهم ، وقد خرجوا به من البغي اسما وحكما ، وصاروا داخلين في أحكام أهل العدل .
والضرب الثاني : أن
يلقوا سلاحهم مستسلمين ، فالواجب الكف عنهم : لأن الله تعالى أمر بقتالهم لا بقتلهم ، وخالفوا أهل الحرب إذا ألقوا سلاحهم في جواز قتلهم : لأن الأمر في أهل الحرب متوجه إلى قتلهم ، وفي أهل البغي إلى قتالهم .
والضرب الثالث : أن
يولوا منهزمين فيجب الكف عنهم ، ولا يتبعوا بعد هزيمتهم .
فقد نادى منادي
علي يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، وروى
جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده
علي بن الحسين ، عليهم السلام قال : دخل علي
[ ص: 116 ] مروان فقال لي : ما رأيت أكرم غلبة من أبيك ، ما كان إلا أن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح .
ولما ولى
الزبير عن القتال وخرج عن الصف ، قال
علي : أفرجوا للشيخ فإنه محرم ، فمضى وتبعه
عمرو بن جرموز حتى ظفر باغتياله فقتله
بوادي السباع ، وأتى
عليا برأسه ، فقال
علي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924593بشر قاتل ابن صفية بالنار . فقال
عمرو : أف لكم إن كنا معكم أو عليكم في النار ، فقام وهو يقول :
أتيت عليا برأس الزبير وكنت أظن بها زلفتي فبشر بالنار قبل الوعيد
وبئس بشارة ذي التحفة
وولى
طلحة بن عبيد الله ، فلم يعرض له أحد من أصحاب
علي حتى رماه
مروان بن الحكم بسهم في أكحله فقتله ، وكان في عسكر
طلحة والزبير ، فلما كان في الليل سار
علي عليه السلام ومعه قنبر مولاه بمشعلة يتصفح القتلى ، فمر
بطلحة قتيلا ، فوقف عليه وبكى وقال :
أعزز علي
أبا محمد أن أراك مجدلا تحت نجوم السماء ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، شفيت غيظي وقتلت معشري ، إلى الله أشكو عجري وبجري ، ثم أنشأ يقول :
فتى كان يعطي السيف في الروع حقه إذا ثوب الداعي ويشقى به الجور
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر