الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل :

فإذا تقرر ما وصفنا من حال الزنا واستقراره على رجم الثيب وجلد البكر ، فلا يخلو حال الزاني من أحد أمرين :

إما أن يكون بكرا أو ثيبا على ما سنصفه من حال البكر والثيب . فإن كان ثيبا ويسمى الثيب محصنا فحده الرجم دون الجلد .

وذهب الخوارج إلى أن عليه جلد مائة دون الرجم ، تسوية بين البكر والثيب : احتجاجا بظاهر القرآن ، وأن الرجم من أخبار الآحاد وليست حجة عندهم في الأحكام .

وقال داود بن علي ، وأهل الظاهر : عليه جلد مائة والرجم ، فجمعوا عليه بين الحدين : احتجاجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .

وبرواية قتادة ، عن الشعبي أن شراحة الهمدانية أتت عليا عليه السلام ، فقالت : قد زنيت . قال : لعلك غيراء ، لعلك رأيت رؤيا . قالت : لا . فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله . ولأن حد الزنا يوجب الجمع بين عقوبتين كالبكر يجمع له بين الجلد والتغريب .

وذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء : إلى آية الرجم دون الجلد .

والدليل على وجوب الرجم : - بخلاف ما قاله الخوارج - ما قدمناه من الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا ، وعن الصحابة نقلا وعملا ، واستفاضته في الناس ، وانعقاد الإجماع عليه حتى صار حكمه متواترا ، وإن كان أعيان المرجومين فيه من أخبار الآحاد ، وهذا يمنع من خلاف حدث بعده .

والدليل على أن الجلد ساقط في رجم الثيب : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ، ولو جلدهما لنقل كما نقل رجمهما .

وروى عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز بن مالك حين أتاه فأقر عنده [ ص: 192 ] بالزنا : لعلك قبلت ، أو غمزت ، أو نظرت . قال : لا . قال : أفعلت كذا وكذا . لا يكني ، قال : نعم . فعند ذلك أمر برجمه .

وروى أبو سلمة ، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم اعترف بالزنا فأعرض عنه ، ثم اعترف فأعرض عنه ، حتى شهد على نفسه أربع مرات ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أبك جنون ؟ قال : لا . قال : أحصنت ؟ قال : نعم . فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم بالمصلى ، فلما أذلقته الحجارة فر ، فأدرك فرجم حتى مات .

وروى أبو المهلب ، عن عمران بن الحصين أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا ، وقالت : إني حبلى . فدعى النبي صلى الله عليه وسلم وليها ، فقال : أحسن إليها ، فإذا وضعت فائتني بها . ففعل ، فلما وضعت جاء بها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اذهبي فأرضعيه . ففعلت ، ثم جاءت ، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشد عليها ثيابها ثم أمر برجمها ، وصلى عليها ، فقال له عمر : يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها ؟ فقال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، هل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها ؟ .

وقال - فيما قدمناه من حديث أبي هريرة - : " اغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " فدلت هذه الأخبار على اقتصاره على الرجم دون الجلد ، وأن ما تضمنه حديث عبادة بن الصامت من قوله : " والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " منسوخ لتقدمه على ما رويناه إذا كان هو الأصل في بيان الرجم . ولأن ما وجب به القتل لم يجب به الجلد كالردة .

فأما حديث علي في جلد شراحة ورجمها ، ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مرسل : لأن راويه عن الشعبي ولم يلقه .

والثاني : أنه جلدها : لأنه حسبها بكرا ، ثم علم أنها ثيب فرجمها ، ألا تراه أنه جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة ، ولولا ذلك لجمع بينهما في يوم واحد . والثابت أنها زنت بكرا فجلدها ، ثم زنت ثيبا فرجمها . ويحتمل أن يكون رجمها في جمعة لا تلي الخميس أو تليه .

[ ص: 193 ] وأما القياس - وإن لم يكن من حجج أهل الظاهر - فالمعنى في الرجم : أنه عام دخل فيه ما دونه ، والجلد خاص جاز أن يقترن إليه التغريب الذي لا يدخل فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية