فصل : فإذا تقرر هذا ، فالحدود على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما كان من حقوق الله تعالى المحضة .
والثاني : ما كان من حقوق الآدميين المحضة .
والثالث : ما كان من الحقوق المشتركة .
فأما
حقوق الله تعالى المحضة : فحد الزنا ، وقتل الردة ، وحد شرب الخمر ، فإذا وجبت بالإقرار ، سقطت بالرجوع عنه . ولو وجبت بالشهادة ، لم تسقط برجوع المشهود عليه ، وسقطت برجوع الشهود . فإن اجتمع فيها الإقرار بها والشهادة ، فقد اختلف أصحابنا
هل تختص إقامتها بالإقرار أو بالشهادة ؟ على وجهين :
أحدهما : تختص إقامة الحد فيها بالشهادة دون الإقرار : لأنها أغلظ . فعلى هذا : إن رجع عن إقراره لم يسقط عنه الحد .
والوجه الثاني : تختص إقامتها بالإقرار دون الشهادة : لأن الشهادة مع الاعتراف مطرحة . فعلى هذا : لو رجع عن إقراره سقط عنه الحد ، والأصح من إطلاق هذين الوجهين عندي أن ينظر في اجتماعهما ، فإن تقدم الإقرار على الشهادة كان وجوب الحد بالإقرار وسقط بالرجوع ، وإن تقدمت الشهادة على الإقرار كان وجوب الحد
[ ص: 212 ] بالشهادة ولم يسقط بالرجوع : لأن وجوبه ما سبقها فلم يؤثر فيه ما تعقبه ، وعلى الوجوه كلها لا يسقط أحدهما الآخر .
وقال
أبو حنيفة : إن كذب الشهود حد بشهادتهم ، وإن صدقهم سقط عنه الحد ، فلم يحد بشهادتهم ولا بإقراره ، قال : لأن الشهادة على مقر فسقطت ،
والإقرار لا يوجب الحد حتى يتكرر أربعا .
وهذا مما يدفعه المعقول أن يجب الحد على منكر ويسقط عن مقر ، وإن بناه على أصل ، فهو دليل على فساد أصله .
وأما
حقوق الآدميين المحضة : فالقصاص ، وحد القذف ، فإذا وجب بالإقرار لم يسقط بالرجوع - لما ذكرنا من الفرقين المتقدمين بينهما - إلا أن يصدقه صاحب الحق فيسقط بالتصديق ، دون الرجوع .
وأما
الحقوق المشتركة التي يتعلق بها حق الله وحقوق الآدميين : فهي السرقة ، يجب فيها القطع وهو من حقوق الله المحضة ، وغرم المال المسروق وهو من حقوق الآدميين المحضة . فإذا أوجب بالإقرار لم يسقط الغرم بالرجوع : لأنه من حقوق الآدميين . وفي سقوط القطع بالرجوع وجهان :
أحدهما : يسقط : لاختصاصه بحقوق الله تعالى .
والثاني : لا يسقط بالرجوع : لاقترانه بما لا يؤثر فيه الرجوع .