الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ حكم نباش القبور ]

مسألة : قال الشافعي : " ويقطع النباش إذا أخرج الكفن من جميع القبر : لأن هذا حرز مثله " .

قال الماوردي : النباش : هو الذي ينبش القبور ويسرق أكفان موتاها . اختلف أهل العلم في قطعه ، فذهب الشافعي إلى وجوب قطعه .

وبه قال من الصحابة رضي الله عنهم : ابن الزبير وعائشة .

ومن التابعين : عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري .

ومن الفقهاء : إبراهيم النخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ومالك بن أنس ، وأبو يوسف ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يقطع .

وبه قال من الصحابة : زيد بن ثابت ، وعبد الله بن عباس : استدلالا برواية الزهري أن نباشا رفع إلى مروان بن الحكم فعزره ولم يقطعه ، وفي المدينة بقية الصحابة وعلماء التابعين فلم ينكره أحد منهم ، ولأن أطراف الميت أغلظ حرمة من كفنه ، فلما سقط ضمان أطرافه فأولى أن يسقط القطع في أكفانه ، ولأنه لو سرق من القبر غير الكفن لم يقطع ، فكذلك إذا سرق الكفن : لأن ما كان حرزا لشيء كان حرزا لأمثاله ، وليس القبر حرزا لمثل الكفن ، فكذلك لا يكون حرزا للكفن ، ولأن الكفن معرض للبلى والتلف فخرج عن حكم المحفوظ المستبقى ، فسقط عنه القطع المختص بما يحفظ [ ص: 314 ] ويستبقى ، ولأن الكفن لا مالك له ، وما لا مالك له لا قطع فيه لعدم المطالب ، كمال بيت المال ، ولأنه لو كفن بأكثر من العادة لم يقطع في الزيادة ، كذلك فيما جرت به العادة ، ولأن قبر الميت يشتمل على كفنه وطيبه ، ثم لم يقطع في طيبه ، فكذلك في كفنه .

ودليلنا : قول الله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، فوجب أن يكون على عمومه في النباش وغيره .

فإن قيل : النباش ليس بسارق : لاختصاصه باسم النباش دون السارق .

قيل : عنه جوابان :

أحدهما : أن السارق هو المستسر بأخذ الشيء من حرزه ، كما قال تعالى : إلا من استرق السمع [ الحجر : 18 ] ، وهذا موجود في النباش ، فوجب أن يكون سارقا .

والثاني : ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سارق موتانا كسارق أحيائنا . وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال : يقطع سارق أحيائنا وسارق موتانا . فسمياه سارقا ، وقولهما حجة في اللغة ، وقال تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا [ المرسلات : 25 ] ، أي : نجمعهم أحياء على ظهرها ونضمهم أمواتا في بطنها . فجعل بطنها حرزا للميت كما جعل ظهرها حرزا للحي ، فاستويا في الحكم .

وروى البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع المختفي ، قال الأصمعي : وأهل الحجاز يسمون النباش المختفي ، وفيه تأويلان :

أحدهما : لاختفائه بأخذ الكفن .

والثاني : لإظهاره الميت في أخذ كفنه ، وقد يسمى المظهر المختفي ، وهو من أسماء الأضداد . وروي أن عبد الله بن الزبير قطع نباشا بعرفات وهو مجمع الحجيج . ولا يخفى ما يجري فيه على علماء العصر ، فما أنكره منهم منكر .

ومن القياس : أنها عورة يجب سترها ، فجاز أن يجب القطع في سرقة ما سترها كالحي .

ولأنه حكم يتعلق بسرقة مال الحي ، فجاز أن يتعلق بسرقة كفن الميت كالضمان .

ولأن قطع السرقة موضوع لحفظ ما وجب استبقاؤه على أربابه ، حتى ينزجر الناس عن أخذه ، فكان كفن الميت بالقطع أحق لأمرين :

أحدهما : أنه لا يقدر على حفظه على نفسه . [ ص: 315 ] والثاني : أنه لا يقدر على مثله عند أخذه .

فأما الجواب عن حديث مروان أنه عزر النباش فلم يقطعه : فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنه مذهب له وقد عارضه فعل من قوله أحج وفعله أوكد ، وهو ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز .

والثاني : أنه يجوز أن يكون سقوط القطع لنقصان قيمته عن مقدار القطع .

والثالث : أنه يجوز أن يكون النباش لم يخرج الكفن من القبر ، والقطع لا يجب إلا بعد إخراجه من القبر : لأن جميع القبر حرز له .

وأما الجواب عن استدلالهم بسقوط الضمان في أطرافه فكذلك في أكفانه : فمن وجهين :

أحدهما : انتقاضه بالمرتد ، يسقط ضمان أطرافه ولا يسقط في ماله .

والثاني : أنه لما افترقت أطرافه وأكفانه في الضمان وضمن أكفانه ولم يضمن قطع أطرافه ، كان القطع تبعا لضمانها في الوجوب ، كما كان القود في الأعضاء تبعا لضمانها في السقوط .

وأما الجواب عن قولهم : بأن القبر ليس بحرز لغير الكفن ، فلم يكن حرزا للكفن . فمن وجهين :

أحدهما : أنه لو كان القبر في حرز ودفن فيه مع الميت مال قطع في المال عندهم ، ولم يقطع في الكفن ، وإن كان في هذا الجواب ضعف : لأن عندهم لسقوط القطع في الكفن ثلاث علل :

أحدها : أن القبر ليس بحرز .

والثانية : أنه موضوع للبلى .

والثالثة : أنه لا مالك له . فإن كملت سقط القطع بجميعها ، وإن تفرقت سقط القطع بما وجد منها .

والجواب الثاني : أن الحرز معتبر بالعادة التي لا يقترن بها تفريط ، والعادة في الأكفان إحرازها في القبور ، ولا ينسب فاعلها إلى تفريط ، فصار إحرازا ، وليس إذا كان حرزا لها صار حرزا لغيرها : لأن الأحراز تختلف بحسب اختلاف المحرزات .

فإن قيل : هذا الجواب في اعتبار العادة لا يمنع من سقوط القطع ، كبذر الزرع قد جرت العادة في إحراز ببذره فيها ، ولا ينسب فاعله إلى تفريط ، ولو سرقه سارق لم يقطع ، فكذلك الكفن .

[ ص: 316 ] فالجواب عنه : أن أصحابنا اختلفوا فيه ، هل يجب القطع على سارقه أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : يجب القطع فيه إذا بلغت قيمته نصابا ، اعتبارا بالعادة في إحراز مثله . فعلى هذا : يسقط الاعتراض به .

والوجه الثاني : لا يجب فيه القطع . والفرق بينه وبين الكفن : أن الكفن يؤخذ دفعة واحدة من حرزه ، وقد كملت قيمته نصابا ، فلذلك قطع فيه ، وليس كذلك هذا البذر : لأنه يأخذه من الأرض حبة بعد حبة وكل حبة منها تحرز في موضعها ، لا في موضع غيرها ، وإذا افترقت السرقة لم يضم بعضها إلى بعض فافترقا .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن الكفن معرض للبلى والتلف : فمن وجهين :

أحدهما : أن الاعتبار بحاله عند أخذه ، ولا اعتبار بما تقدم أو تأخر ، كالبهيمة المريضة إذا شارفت الموت .

والثاني : أن تعريضه للبلى لا يمنع وجوب القطع فيه ، كدفن الثياب في الأرض ، وعلى أن ثياب الحي معرضة للبلى باللباس ، ولا يوجب سقوط القطع فيها ، كذلك الأكفان .

وأما الجواب عن قولهم : إنه لا مالك للكفن . فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ملك للميت خاصة لاختصاصه به ، وليس يمتنع أن يكون مالكا له في حياته ، وباقيا على ملكه بعد موته ، كالدين يكون ثابتا في ذمته في حياته ، وفي حكم الثابت في ذمته بعد موته . فعلى هذا : لو أن الميت أكله السبع وبقي كفنه ، ففيه وجهان :

أحدهما : يكون لورثته على فرائض الله .

والثاني : يكون لبيت مال المسلمين . وعلى هذا : في الخصم المستحق للمطالبة بقطع سارقه وجهان :

أحدهما : الورثة إن جعلناه موروثا .

والثاني : الإمام إن جعلناه لبيت المال ، فهذا حكم الوجه الأول .

والوجه الثاني : أن الكفن ملك للورثة ، وقد استحق الميت منافعه كالتركة إذا كان عليها دين ملكها الورثة واستحق الميت عليهم قضاء دينه . فعلى هذا : إن أكله السبع عاد الكفن إلى الورثة وجها واحدا ، وهم الخصوم في قطع السارق .

والوجه الثالث : أنه لا مالك للكفن ، ولأن الميت لا يملك ، والوارث لا حق له [ ص: 317 ] فيه ، وليس يمتنع أن يقطع فيما لا مالك له ، كما يقطع في أستار الكعبة ، وآلات المساجد . ويخالف مال بيت المال : لأنه لم يتعين في حق إنسان بعينه ، والكفن يتعين في حق صاحبه ، ويعود إلى بيت المال ، إن أكله السبع ، ويكون الإمام هو الخصم في قطع السارق .

وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لا يقطع في زيادة الكفن : فهو أن الغرض ثوب ، والزيادة عليه إلى خمسة أثواب ندب ، وما زاد عليه خارج حكمه ، فيقطع في الواجب والندب ، ولا يقطع في الزيادة عليها بخروجها عن حكم الكفن فرضا وندبا ، وليس القبر حرزا لغير الكفن ، وإن كان حرزا للكفن : لما قدمناه فافترقا .

وأما الجواب عن استدلالهم بالطيب : ففي قطع سارقه من أكفان الميت وجهان :

أحدهما : يقطع ويسقط الاستدلال به .

والوجه الثاني : لا يقطع : لأن الطيب مستهلك بعد استعماله ، والأكفان باقية فافترقا في القطع : لافتراقهما في المعنى .

فأما سرقة التابوت فلا قطع فيه : لأن التابوت منهي عن الدفع فيه ، فلم يصر القبر حرزا له فسقط فيه القطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية