فصل : فأما النفي المراد بقوله تعالى :
أو ينفوا من الأرض [ المائدة : 33 ] فقد اختلف فيه على أربعة مذاهب : أحدها : وهو قول
أنس بن مالك والحسن البصري أن نفيهم إبعادهم من بلاد الإسلام إلى بلاد الشرك . والثاني : وهو قول
عمر بن عبد العزيز ،
وسعيد بن جبير أنه إخراجهم من مدينة إلى أخرى . والثالث : وهو قول
أبي حنيفة وأصحابه أنه حبس من لم يجب عليه حد . والرابع : وهو قول
ابن عباس ،
والشافعي أنه طلبهم لإقامة الحدود عليهم فيبعدوا . واستدل
أبو حنيفة على أن نفيهم هو الحبس بأمرين :
[ ص: 356 ] أحدهما : أن المراد به كفهم عن الأذى ، وإبعادهم لا يكفهم عن الأذى ، والحبس يكفهم عنه ، فكان هو المراد به . حكى
مكحول أن
عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون ، وقال : احبسه حتى أعلم منه التوبة ، ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهم . والثاني : أنه جعل النفي حدا ، فاقتضى أن يتوجه إلى غير أصحاب الحدود المتقدمة ،
والشافعي جعله متوجها إليهم ، فخالف الظاهر . واستدل له
ابن قتيبة : بأن العرب تجعل الحبس نفيا : لقول بعض المسجونين من شعراء العرب :
خرجنا من الدنيا ونحن من اهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ودليلنا : قول الله تعالى :
أو ينفوا من الأرض فاقتضى الظاهر أن يكون النفي راجعا إلى جميعهم ، ولا يكون راجعا إلى جميعهم إلا على قولنا : أن يطلبوا لإقامة الحدود عليهم فيهربوا . وهو على قول
أبي حنيفة راجع إلى بعضهم . فإن قيل : فالله تعالى قد أمر بنفيهم ، ومذهبكم يبعث على أن ينفوا أنفسهم . قيل : إذا نفوا أنفسهم لطلب الإمام لهم ، صار الإمام هو الذي نفاهم . ويدل عليه قول
ابن عباس : فإن هرب فذلك نفيه . وقوله مع عدم المخالف حجة . ولأن الحبس لا يسمى نفيا : لأنه إمساك ، والنفي إبعاد فصارا ضدين . فأما الجواب بأن المقصود بالنفي الكف ، والحبس كف : قلنا : الطلب لإقامة الحد أبلغ من الكف . أما الجواب عن قولهم : إنه حد فوجب حمله على ما تقدم : فهو أنه حد في غير ما تقدم : لأن المتقدم حد في المقدور عليه وهذا حد في غير المقدور عليه . وأما الشعر فلا دليل فيه : لأنه جعل الحبس نفيا من الدنيا ، ولحوقا بالموتى ، وهو بخلاف ما قال ، فبطل الاستدلال .