فصل : فإذا تقرر جواز القصر في السفر المباح كجواز قصره في الواجب فلا يجوز إلا في سفر محدود : لأن
الرخص المتعلقة بالسفر على ثلاثة أضرب : ضرب منها يتعلق بسفر محدود ، وهو ثلاثة أشياء ، القصر ، والفطر ، والمسح على الخفين ثلاثا ، وضرب منها يتعلق بطويل السفر وقصيره ، وهو شيئان التيمم ، والصلاة على الراحلة أينما توجهت ، وضرب اختلف قوله فيه وهو
الجمع بين الصلاتين ، وله فيه قولان .
قال في القديم : يجوز في طويل السفر وقصيره إلحاقا بالتيمم ، وصلاة النافلة على الراحلة ، وقال في الجديد : لا يجوز إلا في سفر محدود إلحاقا بالقصر ، والفطر .
وقال
داود بن علي : يجوز
القصر ، والفطر في طويل السفر ، وقصيره ، تعلقا بقوله تعالى :
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] . فأطلق ذلك على ظاهره ، ولم يقدره بحد ، فوجب حمله على ظاهره ، ورواية
أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر فرسخا فقصر ،
وروي عن علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، أنه خرج إلى الحلبة فرجع من يومه وقصر ، وقال : إنما فعلت هذا لأعلمكم سنة نبيكم .
والدلالة على ما ذهبنا إليه رواية
عطاء ، عن
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد وذلك من
مكة إلى
الطائف وعسفان .
فإن قيل : هذا موقوف على
ابن عباس ، قيل قد رويناه مسندا عنه من مذهبنا أن الخبر إذا روي موقوفا ، ومسندا حمل الموقوف على أنه مذهب الراوي ، والمسند على أنه قول
[ ص: 360 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه إجماع الصحابة ، وذلك أن الصحابة ، رضي الله عنهم ، اختلفوا في
القصر على قولين :
فقال
ابن مسعود : لا يجوز في أقل من أربعة أيام .
وقال
ابن عمر ،
وابن عباس : لا يجوز في أقل من يومين ، فقد أجمعوا على أنه محدود ، وإن اختلفوا في قدر حده ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علق القصر بالسفر ، ومنع منه في الحضر ، فكان من الفرق بينهما لحوق المشقة في السفر ، وعدمها في الحضر ، والسفر القصير لا تلحق المشقة فيه غالبا ، فاقتضى أن لا يتعلق به القصر ، فأما عموم الآية فمحمول على السفر المحدود بدليلنا .
وأما الخبر فالجواب عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان سفره طويلا ، وإنما قصر في الفرسخ الأول ليعلم جوازه قبل قطع المسافة المحدودة ، وأما حديث
علي - عليه السلام - فالمروي عنه غيره ، فلم يصح الاحتجاج به للروايتين .