مسألة : قال
الشافعي ، رحمه الله تعالى : " وأكره ترك القصر رغبة عن السنة ، فأما أنا فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيام احتياطا على نفسي ، وإن ترك القصر مباح لو قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتم .
قال
الماوردي : وهذا كما قال .
والمسافر عندنا بالخيار بين قصر الصلاة في سفره ، وبين إتمامها أربعا كالحضر فيكون ما أتمه من سفره صلاة حضر لا صلاة سفر هذا مذهبنا ، وبه قال من الصحابة
عثمان بن عفان ،
وسعد بن أبي وقاص ،
وأنس بن مالك ، ومن التابعين
أبو قلابة ، ومن الفقهاء أبو ثور .
وقال
أبو حنيفة ،
ومالك : القصر في السفر واجب ، وبه قال من الصحابة
أبو بكر ،
وعمر ،
وابن عمر ،
وابن عباس - رضي الله عنهم - فإن أتم الصلاة أفسدها وأجمعوا : أنه لو
صلى خلف مقيم أتم ، ولم يقصر ، واستدلوا برواية
مجاهد ، عن
ابن عباس قال :
فرض الله سبحانه على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، فأخبر أن فرض السفر ركعتان لا غير .
وروي عن
عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت :
فرض الله الصلاة ركعتان فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر .
وروي عن
عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال :
صلاة الفطر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم .
وروي أن
أبا بكر ، رضي الله عنه ، خطب الناس فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
للظاعن ركعتان وللمقيم أربع .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
خير عباد الله الذين سافروا قصروا الصلاة وأفطروا .
[ ص: 363 ] فاقتضى أن يكون شرهم من أتم الصلاة ولم يفطر .
وهذا وصف لا يستحقه من ترك المباح وإنما يستحقه من ترك الواجب .
قالوا : ولأنه إجماع الصحابة ، رضي الله عنهم ، وذلك أن
عثمان ، رضي الله عنه ، أتم الصلاة
بمنى فأنكر عليه
ابن مسعود والصحابة فاعتذر إليهم ، وقال : قد تأهلت
بمكة .
فلما تبين المعنى الذي أتم لأجله وهو أنه كان مقيما علم أن القصر واجب لاعتذاره ، قالوا : ولأنها صلاة ردت إلى ركعتين فوجب أن لا يجوز الزيادة عليها كالجمعة ، قالوا : ولأنه لا يخلو أن تكون الزيادة على الركعتين واجبة ، أو غير واجبة : فبطل أن تكون واجبة لأنه لو تركها جاز والواجب لا يسقط إلى غير واجب ، وإذا قيل إنها غير واجبة لم يجز فعلها كالمصلي الصبح أربعا وهذا خطأ .
ودليلنا قوله تعالى :
فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] فأخبر تعالى بوضع الجناح عنا في القصر ، والجناح الإثم ، وهذا من صفة المباح لا الواجب ، فإن قيل : فقد قال الله تعالى :
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] والسعي واجب .
قيل : الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن الآية نزلت على سبب وهو أن الجاهلية كانت لها على
الصفا صنم اسمه أساف ، وعلى
المروة صنم اسمه نائلة ، فكانت تطوف حول
الصفا والمروة تقربا إلى الصنمين ، فظن المسلمون أن السعي حول
الصفا والمروة غير جائز ، فأخبر الله سبحانه بإباحته ، وأنه وإن شابه أفعال الجاهلية فإنه مخالف له : لأنه لله تعالى وذلك لغير الله تعالى ، فكان السعي الذي وردت فيه الآية مباحا ، وغير واجب لأن السعي الواجب بينهما ، والآية واردة بالسعي بهما .
والجواب الثاني : أن الآية وإن تضمنت السعي بين
الصفا والمروة فالمراد بها المباح لا الواجب : لأنها نزلت أول الإسلام قبل وجوب الحج والعمرة ، ولم يكن واجبا وإن ما كان مباحا ألا ترى إلى ما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=921704عن عروة أنه قال : إني لا أرى أن لا جناح علي إذا لم أطف بهما ، فقالت عائشة رضي الله عنها : بئس ما قلت إنما كان ذلك في أول الإسلام ، ثم سنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك .
فإن أراد به قصر هيئات الصلاة وتحقيق أفعالها لا تقصير أعداد ركعاتها قيل هذا
[ ص: 364 ] تأويل قبيح يدفعه ظاهر الآية ، ويبطله إجماع الصحابة لأن
يعلى بن أمية قال
لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=921705أباح الله تعالى القصر في الخوف ، فما بالنا نقصر في غير الخوف ؟ فقال عمر ، رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " القصر صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته فقد فهمت الصحابة ، رضي الله عنهم من الآية مع ظهوره على أن قصر الهيئات لا تختص بالخوف ، أو السفر المشروط في الآية ، فعلم أن المراد به قصر الأعداد ، ومن الدلالة على ما ذكرنا ما رواه
عطاء ، عن
عائشة ، رضي الله عنها ، قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=921706كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره يتم ، ويقصر ، ويصوم ، ويفطر .
وروي عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=921707سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا قال لي : يا عائشة ، ماذا صنعت في سفرك ؟ قلت : أتممت ما قصرت ، وصمت ما أفطرت فقال : أحسنت .
فدل ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم على أن
القصر ، والفطر رخصة .
وروي عن
أنس بن مالك قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=921708سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنا المتم ، ومنا المقصر ، ومنا الصائم ، ومنا المفطر ، فلم يعب المتم على المقصر ، ولا المقصر على المتم ، ولا الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ، ولأنه أتى بغرض الإقامة فيما يصح فعله منفردا فوجب أن يجزى به .
أصله :
التمام في الصلاة خلف المقيم .
ولأنه عذر بغير فرض الصلاة ، فوجب أن لا يمنع من الإتيان بغرض الرفاهية كالمرض ، ولأنها صلاة مفروضة فصح أن تؤدى في السفر فرض الحضر .
أصله :
الصلوات التي لا تقصر وهي المغرب ، والصبح . ولا يدخل عليها صلاة الجمعة لأن المسافر لو صلاها في سفر لم تجزه عن فرضه ، ولأن الأعذار المؤثرة في الصلاة تخفيفا إنما تؤثر فيها رخصة لا وجوبا كالمرض ، ولأن السفر إذا اقتضى رفقا في الصلاة كان ذلك رخصة لا عزيمة كالجمع بين الصلاتين : ولأن من جاز منه القصر صح منه الإتمام كالمسافر إذا صلى خلف مقيم ، ولأن كل ركعات استوفاها في فرضه خلف الإمام وجب إذا انفرد أن تكون تلك الركعات فرضه كالمقيم .
[ ص: 365 ] فأما الجواب عن استدلالهم بحديث
أبي بكر ،
وعمر ،
وابن عباس ، رضي الله عنهم ، ففيه جوابان .
أحدهما : أن ظاهر الأحاديث يقتضي جواز صلاة المسافر ركعتين ، وهذا مسلم بإجماع ، وإنما تقول : إن المسافر بالخيار بين أن يأتي بصلاة السفر ركعتين ، أو بصلاة الحضر أربعا .
والجواب الثاني : أن المراد بها : ما لا يجوز النقصان منه ، وهو ركعتان في السفر ، وأربع في الحضر .
وأما احتجاجهم بما رواه من قوله :
خير عباد الله الذين إذا سافروا أفطروا وقصروا .
فهذا حديث موقوف على
سعيد بن المسيب فلم يلزم ، على أنه لو كان صحيحا لم يكن فيه حجة لأنه جمع بين الفطر ، والقصر ، ثم لو صام جاز ، كذلك إذا أتم .
وأما ما ذكره من الإجماع فخطأ كيف يكون إجماعا
وعائشة رضي الله عنها ،
وسعد بن أبي وقاص ،
وأنس ،
وابن مسعود رضي الله عنهم خالفوا .
أما
عائشة ، رضي الله عنها ، فإنها أتمت ، وأما
أنس فأخبر أن من قصر لم يعب على من أتم .
وأما
سعد فلم يكن يقصر في سفره .
وأما
ابن مسعود فروى
الشافعي أنه عاب على
عثمان ، رضي الله عنه الإتمام
بمنى ثم صلى فأتم . فقيل له : إنك تعيب على
عثمان ، رضي الله عنه الإتمام ، وتتم ، فقال : الخلاف شر ، فعلم أن إنكارهم عليه ترك للأفضل لا الواجب .
لأن الصحابي لا يتبع إمامه فيما لا يجوز فعله .
وأما قياسهم على الجمعة . فالمعنى فيه : أنه لما لم تجز الزيادة فيها بالإتمام وجب الاقتصار على ركعتين ، ولما جاز للمسافر الزيادة فيها بالإتمام لم يجب الاقتصار على ركعتين .
وأما قولهم إن الزيادة فيها على ركعتين غير واجبة ، فاقتضى بطلان الصلاة بها .
فالجواب : أنا لا نسلم أن الزيادة غير واجبة لأنها لو كانت غير واجبة لم تجب عليه الإتمام . ألا ترى أن
المصلي الصبح خلف المصلي الظهر إذا صلى ركعتين سلم ، ولم يتبع إمامه في الزيادة لأنها غير واجبة .
ولما كان
المسافر يجب عليه اتباع إمامه المقيم في الزيادة على ركعتين ، علم أنها واجبة .
[ ص: 366 ] فإن قيل : إذا كانت الزيادة عليه واجبة فلم جوزتم تركها إذا قصر .
قلنا : نحن على ما جوزنا له ترك واجب ، وإنما قلنا أنت مخير بين أن تأتي بصلاة حضر أربع ركعات ، وبين أن تأتي بصلاة سفر ركعتين ، وأيهما فعل فقد فعل الواجب ، وأجزاه عن الآخر ، كما تقول في كفارة اليمين ، والله تعالى أعلم .