فصل :
فإذا تقرر ما ذكرنا فقد اختلف الفقهاء في مقدار حده .
فذهب
الشافعي إلى أن
حد الخمر أربعون ، لا يجوز أن ينقص منها ، وما زاد عليها إلى الثمانين تعزير ، يقف على اجتهاد الإمام لا يزيد عليها ، ويجوز أن ينقص منها .
وقال
مالك ،
وأبو حنيفة ،
وسفيان الثوري :
حد الخمر ثمانون كالقذف ، ولا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها : استدلالا برواية
سعيد ، عن
قتادة ، عن
أنس ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=924790أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو الأربعين . وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانون . فأخذ بها عمر . فصار اجتهاد الصحابة موافقا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن الأربعين بالجريدتين ثمانون .
وروى
أبو سعيد الخدري nindex.php?page=hadith&LINKID=924791أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بنعلين أربعين ، فلما كان زمن عمر جلد بدل كل نعل سوطا فدل على أن اجتهاد الصحابة كان في صفة الحد لا في عدده .
وقد روى
محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=924792أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر ثمانين وهذا نص .
[ ص: 413 ] ومن الاعتبار أنه حد يجب على الحر ، فلم يتقدر بالأربعين كالقذف ، ولأن حد القذف أخف ، وحد الشرب أغلظ لما في النفوس من الداعي إليه ، وغلبة الشهوة عليه ، فكان إن لم يزد عليه فأولى أن لا ينقص عنه ، ولأن
الزيادة على الأربعين لو كانت تعزيرا لم يجز أن تبلغ أربعين ، لأن التعزير لا يجوز أن يكون مساويا للحد .
ودليلنا : مع ما قدمناه في صدر الباب من حديث
عبد الرحمن بن أزهر ، ما رواه
حصين بن المنذر أبو ساسان الرقاشي ، قال : شهدت
عثمان بن عفان ، وقد أتي
بالوليد بن عقبة ، فشهد عليه
حمران ورجل آخر . شهد أحدهما أنه شرب الخمر ، وشهد الآخر أنه تقيأها . فقال
عثمان : ما تقيأها حتى شربها . فقال
لعلي : أقم عليه الحد .
فقال
علي للحسن : أقم عليه الحد . فقال
الحسن : ول حارها من تولى قارها . أي : ولي صعبها من تولى سهلها .
فقال
علي لعبد الله بن جعفر : أقم عليه الحد . فجلده
عبد الله بالسوط
وعلي يعد ، فلما بلغ أربعين قال : حسبك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ، وجلد
أبو بكر أربعين ، وجلد
عمر ثمانين ، وكل سنة أحب إلي . وهذا نص من وجهين :
أحدهما : ما أخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتصاره على الأربعين .
والثاني : إخباره بأن كلا العددين سنة يعمل بها ويصح التخيير فيها .
ومن القياس : أنه سبب يوجب الحد فوجب أن يختص بعدد لا يشاركه غيره ، كالزنا والقذف .
فإن قيل : فوجب ألا يقدر بأربعين كالزنا والقذف . قيل :
الحدود موضوعة على الاختلاف في المقدار : لاختلافها في الأسباب ، فجاز لنا اعتبار بعضها ببعض في التفاضل ، ولم يجز اعتبار بعضها ببعض في التماثل .
ولأن
الحدود تترتب بحسب اختلاف الإجرام ، فما كان جرمه أغلظ كان حده أكثر .
ولأن الزنا لما غلظ جرمه للاشتراك فيه غلظ حده .
والقذف لما اختص كان حده أكثر بالتعدي إلى واحد كان أخف من الزنا . والخمر لما اختص بواحد لم يتعد عنه ، وجب أن يكون أخف من القذف ، فأما الجواب عن حديثي
أنس وأبي سعيد فمن وجهين :
[ ص: 414 ] أحدهما : اضطراب الحديثين : لأنه لو كان في حد الخمر نص ما اجتهد فيه الصحابة ، ولعملوا فيه على النقل .
والثاني : تحمل الرواية بجريدتين والنعلين ، على أن إحداهما بعد الأخرى : لأن الأولى تقطعت فأخذ الثانية .
وأما الجواب عن حديث
علي بن الحسين : فهو مرسل ، لا يلزم ، وفيه نص لم يعمل به لاجتهاد الصحابة فيه ، فصار الإجماع مانعا من العمل به .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن حد القذف أضعف : فهو أن حد القذف أغلظ من وجهين :
أحدهما : أن القذف متعد والشرب غير متعد .
والثاني : أن
حد القذف من حقوق العباد ، وحد الشرب من حقوق الله تعالى ، وما تعلق بالعباد أغلظ .
وأما الجواب عن قولهم :
لو كانت الزيادة على الأربعين تعزيرا ما جاز أن يساوي حدا ، فمن وجهين :
أحدهما : أنه لا يبلغ بالتعزير إذا كان سببه واحدا ، فأما إذا كانت الأسباب مختلفة جاز : لأن لكل حكما ، وتعزيره في الخمر لأسباب : لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى .
والثاني : أن هذا تعزير ، بعقد إجماع الصحابة عليه في الأربعين ، فصار مخصوصا من غيره .
ثم يقال
لأبي حنيفة ألست تقول : إن
أكثر التعزير تسعة وثلاثون ، ولا يجوز أن يبلغ به الأربعين : لأنه لا يساوي أقل الحدود ؟ فلذلك وجب أن تكون الأربعون حدا .