الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : ثم نشأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قريش على أحسن هدي وطريقة ، وأشرف خلق وطبيعة ، وأصدق لسان ولهجة ، وكانت خديجة بنت خويلد ذات شرف ويسار ، وكانت لها متاجر ومضاربات ، فلما عرفت أمانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق لهجته أبضعته مالا يتجر لها به إلى الشام مضاربا ، وأنفذت معه مولاها " ميسرة " ليخدمه في طريقه ، فنزل ذات يوم تحت صومعة راهب ، فرأى الراهب من ظهور كرامات الله ما علم ، أنها لا تكون إلا لنبي منزل ، وقال لميسرة : من هذا الرجل ؟ فقال : رجل من قريش من أهل الحرم . فقال : إنه نبي : وكان ميسرة يراه إذا ركب تظله غمامة تقيه حر الشمس ، فلما قدم على " خديجة " قص ميسرة عليها حديث الراهب ، وما شاهده من ظل الغمامة ، وتضاعف لها ربح التجارة ، فكانت هذه بشرى ثانية بنبوته ، فرغبت خديجة في نكاحه ، وكان قد خطبها أشراف قريش ، فامتنعت ، وسفر بينهما في النكاح " ميسرة " .

وقيل : مولاة مولدة [ من مولدات مكة ] . وخافت امتناع أبيها عليه : لفقره ، فعقرت له ذبيحة وألبسته حبرة ، بطيب وعقير ، وسقته خمرا حتى سكر ، وحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عمه حمزة بن عبد المطلب ، واختلف في حضور أبي طالب معه ، وخطبها من أبيها فأجابه ، وزوجه بها ، وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وخديجة ابنة أربعين سنة ، ودخل بها من ليلته فلما أصبح خويلد وصحا ، رأى آثار ما عليه فقال : ما هذا العقير والعبير والحبير ؟ قيل له : زوجت خديجة بمحمد . قال : ما فعلت : قيل له : قبح بك هذا وقد دخل بها ، فرضي ، ولأجل ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ظهور [ ص: 6 ] الإسلام : لا يرفع إلي نكاح نشوان إلا أجزته ، ثم إن خديجة كفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمور دنياه ، فكان ذلك من أسباب اللطف ، وولدت له جميع أولاده إلا " إبراهيم " فكان له منها من البنين " القاسم " وبه كان يكنى ، والطاهر ، والطيب ، ومن البنات " زينب " و " رقية " و " أم كلثوم " و " فاطمة " ، فمات البنون قبل النبوة ، وعاش البنات بعدها ، ثم إن قريشا تشاورت في هدم الكعبة وبنائها ؛ لقصر سمكها وكان فوق القامة ، وسعة حيطانها ، وأرادوا تعليتها ، وخافوا من الإقدام على هدمها ، وكان يظهر فيها حية يخاف الناس منها ، فعلت ذات يوم على جدار الكعبة ، فسقط طائر فاختطفها ، فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، وكان البحر قد ألقى سفينة على ساحل " جدة " لرجل من تجار الروم ، فهدموا الكعبة ، وبنوها وأسقفوها بخشب السفينة ، وذلك بعد عام الفجار بخمس عشرة سنة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن خمس وثلاثين سنة ، فلما أرادوا وضع الحجر في الركن ، تنازعت فيه قبائل قريش ، وطلبت كل قبيلة أن تتولى وضعه ، فقال أبو أمية بن المغيرة ، وكان أسن قريش كلها حين خاف أن يقتتلوا عليه : يا معشر قريش ، تقاضوا إلى أول من يدخل من باب هذا المسجد ، فكان أول داخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : هذا " محمد " وهو الأمين وكان يسمى قبل النبوة " الأمين " لأمانته وعفته ، وصدقه ، وقالوا : قد رضينا به ، فلما وصل إليهم أخبروه فقال : ائتوني ثوبا ، فأتوه بثوب فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده ، وقال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، وارفعوه جميعا ففعلوا ، فلما بلغ الحجر إلى موضعه وضعه فيه بيده ، فكان هذا الفعل منهم ووقوع الاختيار عليه من بينهم من الأمارات ما يحدده الله تعالى به من دينه ، وشواهد ما يؤتيه من نبوته .

التالي السابق


الخدمات العلمية