فصل : ولما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
أبو بكر في مسكنه
بالسنح ، لم يشهد
موته ، فأقبل على فرسه ولم يدخل المسجد ، والناس على شك في موته ، وهم يبكون ،
وعمر قائم في المسجد خطيبا يتوعد الناس ويقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت ، ولكن عرج بروحه كما عرج بروح
موسى وغاب عن قومه أربعين ليلة ، والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات ، فقال
العباس : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأسن كما يأسن البشر وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات ، فادفنوا صاحبكم ، أيميت الله أحدكم إماتة ويميت رسوله إماتتين ، وهو أكرم على الله من ذلك ، فإن كان كما يقولون فليس على الله بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله ، ما مات حتى ترك السبيل نهجا واضحا .
أحل الحلال وحرم الحرام ، ونكح وطلق وحارب وسالم فأنتم أصحابه ، وقالوا تربصوا نبيكم لعله علج بروحه ، فتربصوا به حتى ربا بطنه ، فابتدأ
أبو بكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليه ، وكشف الثوب عن وجهه ، فاسترجع ، وقال : مات والله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل بين عينيه ، ورفع رأسه وقال : وانبياه ، ثم قبل جبهته ورفع رأسه وقال واخليلاه ، ثم قبل جبهته ورفع رأسه وقال : واصفياه ، ثم أكب عليه وبكى وقال : بأبي أنت وأمي ، ما أطيب حياتك وأطيب ميتتك : لأنت أكرم على الله من أن يجمع عليك موتتين ، فأما الموتة التي كتبت عليك فقد متها ، ثم سجاه بثوبه ، وخرج فدخل المسجد
وعمر في كلامه ، وتوعده للناس فسكته
أبو بكر فسكت ، ثم
صعد أبو بكر المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ : إنك ميت وإنهم ميتون [ الزمر : 30 ] . ثم قرأ :
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [ آل عمران : 144 ] . ثم قال : من كان يعبد
محمدا فإن
محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، فكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية إلا حين تلاها
أبو بكر ، وقال
عمر : هذا في كتاب الله ، قال : نعم ، فتلقاها الناس كلهم ، فما سمع بشر إلا يتلوها ، وقال
عمر : ما حملني على مقالتي إلا أني كنت أقرأ هذه الآية :
وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ ص: 98 ] لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] . فكنت أظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، ثم أخذوا في جهازه ، وكانوا ممسكين عن التعزية به حتى جاءتهم التعزية من شخص يسمعون صوته ولا يرون شخصه ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ آل عمران : 185 ] . إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، فحينئذ عزا الناس بعضهم بعضا .