[ ص: 102 ] باب :
أصل فرض الجهاد
قال
الشافعي - رحمه الله - : " لما مضت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مدة من هجرته أنعم الله فيها على جماعات باتباعه ، حدثت لها مع عون الله قوة بالعدد لم تكن قبلها ، ففرض الله عليهم الجهاد فقال تعالى :
كتب عليكم القتال وهو كره لكم ، وقال تعالى
وقاتلوا في سبيل الله ، مع ما ذكرته فرض الجهاد " .
قال
الماوردي : وإذ قد مضت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلام نبوته ، وترتيب شريعته وما سار بأمته في حربه وغزواته التي لا يستوضح العلماء طريق الشرع إلا بها ، فهذا الباب يشمل منها على فصلين :
أحدهما : وجوب الهجرة .
والثاني : فرض الجهاد .
فأما الفصل الأول : في
وجوب الهجرة ، فالكلام فيها يشمل على فصلين :
أحدهما : حكمها في زمان الرسول ، صلى الله عليه وسلم .
والثاني : حكمها بعده .
فأما حكمها في زمانه فلها حالتان .
إحداهما : قبل هجرته إلى
المدينة .
والثانية : بعد هجرته إليها .
فأما حكمها وهو
بمكة قبل هجرته إلى
المدينة فهي مختصة بالإباحة دون الوجوب : لأنها هجرة عن الرسول ، فقد كان المسلمون حين اشتد بهم الأذى ، وتتبعتهم
قريش بالمكاره ، رغبوا إلى الله في الإذن لهم بالهجرة عنهم ، فقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم :
ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها [ النساء : 75 ] . يعني
مكة :
واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا [ النساء : 75 ] . فأجابهم الله تعالى إلى ما سألوا من الهجرة فقال تعالى :
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة [ النساء : 100 ] .
[ ص: 103 ] وفيها تأويلان :
أحدهما : أن المراغم المتحول من أرض إلى أرض .
والسعة : المال .
والثاني : أن المراغم طلب المعاش .
والسعة : طيب العيش ، فكانت
الهجرة مباحة لمن خاف على نفسه من الأذى أو على دينه من الفتنة .
فأما الآمن على نفسه ودينه فهجرته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصية إلا لحاجة لما في مقامه من ظهور الإيمان وكثرة العدد ، وهذه الهجرة قد كانت من المسلمين إلى أرض
الحبشة وهي مباح وليست بواجبة ، وفى هذه الهجرة إلى أرض
الحبشة نزل قوله تعالى :
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا [ النحل : 41 ] . يعني : هاجروا إلى أرض
الحبشة من بعد ما ظلمهم
أهل مكة لنبوئنهم في الدنيا حسنة [ النحل : 41 ] . فيه تأويلان :
أحدهما : نزول
المدينة ، قاله
ابن عباس .
والثاني : النصر على عدوهم ، قاله
الضحاك .
وأما حكمها بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
مكة إلى
المدينة فهي مختصة بالوجوب دون الإباحة : لأنها هجرة إلى الرسول ، فقد كانت
هجرة من أسلم من مكة قبل الفتح إليه وهم فيها على ثلاثة أقسام :
أحدها : من كان منهم في سعة مال وعشيرة ، لا يخاف على نفسه ولا على دينه ،
كالعباس بن عبد المطلب فمثل هذا قد كان مأمورا بالهجرة ندبا ، ولم تجب عليه حتما . قال الله تعالى :
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله [ النساء : 100 ] .
والقسم الثاني : من خاف على نفسه أو دينه وهو قادر على الخروج بأهله وماله ، فهذا قد كانت الهجرة عليه واجبة ، وهو بالتأخر عنها عاص : لأنه يتعرض بالمقام للأذى ويمتنع بالتأخر عن النصرة ، قال الله تعالى :
الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .
والقسم الثالث : من خاف على نفسه أو دينه وهو غير قادر على الخروج بنفسه وأهله ، إما لضعف حال أو عجز بدن ، فهذا ممن لم يكن على مثله في المقام حرج ولا مأثم ، وهو بالتأخر عن الهجرة معذورا ، قال الله تعالى :
إلا المستضعفين من الرجال [ ص: 104 ] والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا [ النساء : 98 ] يعني : لا يستطيعون حيلة بالخلاص من
مكة ، ولا يجدون سبيلا في الهجرة إلى
المدينة ، ويكون في التورية عن دينه بإظهار الكفر واستبطان الإسلام مخيرا كالذي كان من شأن
عمار بن ياسر وأبويه حين تخلفوا عن الهجرة
بمكة فامتنع أبواه من إظهار الكفر فقتلا ، وتظاهر به
عمار فاستبقي ، فأنزل الله تعالى فيه :
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] الآية ، فعلى هذا كانت الهجرة في زمان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .