فصل : فإذا ثبت أن فرض الجهاد ترتب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأحوال الأربعة ، فقد كان في
ابتداء فرضه مخصوص الزمان والمكان ، فأما مخصوص زمانه ففيما
[ ص: 109 ] عدا الأشهر الحرم : لأن العرب كانت تحرم القتال في الأشهر الحرم : لينتشروا فيها آمنين قال الله تعالى :
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم [ التوبة : 36 ] . وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب . قال النبي ، صلى الله عليه وسلم :
ثلاثة سرد وواحد فرد ، وكانوا يحرمون القتال في الحرم فقال الله تعالى :
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ العنكبوت : 67 ] . فأثبت الله تعالى في ابتداء فرض الجهاد تحريم
القتال في الأشهر الحرم ، وتحريم القتال في الحرم ، فقال في تحريم القتال في الأشهر الحرم :
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] . فحرم الله تعالى القتال فيها على العموم ابتداء ومقابلة ، ثم أباح الله تعالى فيها
قتال من قاتل ولم يبح قتال من لم يقاتل ، فقال تعالى :
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص [ البقرة : 194 ] . وسبب ذلك ما حكاه
الحسن البصري :
أن مشركي العرب قالوا لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أنهيت يا محمد عن قتالنا في الشهر الحرام ؟ فقال : نعم ، فأرادوا أن يقاتلوه في الشهر الحرام ، فأنزل الله تعالى :
الشهر الحرام بالشهر الحرام أي : إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام ، فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم .
وفي قوله تعالى :
والحرمات قصاص تأويلان :
أحدهما : في انتهاك الحرمات وجوب القصاص .
والثاني : في وجوب القصاص حفظ الحرمات ، ثم أباح الله تعالى فيها قتال من قاتل وقتال من لم يقاتل فقال تعالى :
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله [ البقرة : 217 ] . فأعلمهم أن حرمة الدين أعظم من حرمة الشهر الحرام ، ومعصية الكفر أعظم من معصية القتال ، فصار لتحريم القتال في الأشهر الحرم ثلاثة أحوال : الأولى تحريمه فيها لمن قاتل ولم يقاتل .
والثانية : أنه أبيح فيها قتال من قاتل دون من لم يقاتل .
والثالثة : أنه أبيح فيها قتال من قاتل ومن لم يقاتل .
وقال
عطاء : هذه الحالة الثالثة غير مباحة ، وأنه لا يستباح فيها إلا قتال من قاتل دون من لم يقاتل : وهذا خطأ لأمرين :
أحدهما : ما ذكره الله تعالى من تعليل الإباحة بقوله :
والفتنة أكبر من القتل ، وهذا تعليل عام فوجب أن تكون الإباحة عامة .
والثاني :
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقد بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة ،
[ ص: 110 ] وهو من الأشهر الحرم . وأما الحرم فقد كان القتال فيه حراما على عموم الأحوال ؛ لقول الله تعالى :
ومن دخله كان آمنا ، ثم أباح الله تعالى فيه قتال من قاتل دون من لم يقاتل فقال :
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم [ البقرة : 191 ] . ثم أباح الله تعالى فيه قتال من قاتل ومن لم يقاتل بقوله تعالى :
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ البقرة : 193 ] وبقوله تعالى :
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] . وقال :
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم [ البقرة : 191 ] . فصار لتحريم القتال في الحرام ثلاثة أحوال
الأولى : تحريمه فيه لمن قاتل ومن لم يقاتل .
الثانية : إباحته لمن قاتل دون من لم يقاتل .
والثالثة : إباحته لمن قاتل ومن لم يقاتل .
وقال
مجاهد : هذه الحال الثالثة غير مباحة ، ولا يستبيح فيه إلا قتال من قاتل دون من لم يقاتل ، وهذا خطأ من وجهين :
أحدهما :
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل أهل مكة عام الفتح مبتدئا .
والثاني : أنه قاتل فيه أهل المعاصي فكان تطهير الحرم منهم أولى .