مسألة : قال
الشافعي : "
ويبدأ الإمام بقتال من يليه من الكفار وبالأخوف فإن كان
[ ص: 138 ] الأبعد الأخوف ، فلا بأس أن يبدأ به على معنى الضرورة التي يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها " .
قال الماوردي : اعلم أن على الإمام في جهاد المشركين حقين :
أحدهما : تحصين بلاد الإسلام منهم .
والثاني : قتالهم في ديارهم .
فيبدأ الإمام قبل قتالهم بتحصين بلاد الإسلام منهم : ليأمنوا فيها على نفوسهم وذراريهم ، وأموالهم .
وتحصينها يكون بأربعة أمور :
أحدها : أن يشحن ثغورها من المقاتلة بمن يقوم بقتال من يليها .
والثاني : أن يقوم بمواردهم بحسب أحوالهم في الانقطاع إلى القتال أو الجمع بينه وبين التكسب .
والثالث : أن يبني حصونهم حتى يمتنعوا إليها من العدو إن طرقهم أو طلب كرتهم : لتكون لهم ولذراريهم ملجأ يستدفعون به عدوهم .
والرابع : أن يقلد عليهم أميرا يحميهم في المقام ، ويدربهم في الجهاد ، ولا يجعلهم فوضى فيختلفوا ويضعفوا ، وتقليد هذا الأمر يصح إذا تكاملت فيه أربعة
شروط :
أحدها : أن يكون مسلما : لأنه يقاتل على دين إن لم يعتقده لم يؤمن عليه مع قول الله تعالى :
لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض [ المائدة : 51 ] .
والثاني : أن يكون مأمونا على من يليه من الجيش أن يخونهم وعلى من يقاتله من العدو أن يعينهم : لأنه مستحفظ عليهم ، فاعتبرت فيه الأمانة كولي اليتيم .
والثالث : أن يكون شجاعا في الحرب يثبت عند الهرب ، ويقدم عند الطلب : لأنه معد لهما فوجب " أن يعتبر فيه آلتهما .
والرابع : أن يكون ذا رأي في السياسة والتدبير ، يسوس الجيش على اتفاق الكلمة في الطاعة ، ويدير الحرب في انتهاز الفرصة ، وأمن الغرة : لأنه مندوب لهما ، فاعتبر فيه موجبهما .
فإذا تكاملت فيه هذه الشروط الأربعة كانت
ولايته على ضربين :
ولاية تنفيذ ، وولاية تفويض .
فأما ولاية التنفيذ فهي ما كانت موقوفة على رأي الإمام في تنفيذ أوامره ، فتصح ولايته بتكامل الشروط الأربعة ، وإن كان عبدا من غير أهل الاجتهاد .
[ ص: 139 ] وأما ولاية التفويض فهي ما فوضت إلى رأي الأمير ليعمل فيها باجتهاده ، فيعتبر في انعقادها مع تكامل الشروط الأربعة شرطان آخران :
أحدهما : الحرية : لأن التفويض ولاية لا تصح مع الرق .
والثاني : أن يكون من أهل الاجتهاد في أحكام الجهاد : لأنه موكول إلى رأيه ، فاعتبر فيه علمه به ، وهل يعتبر فيه أن يكون من أهل الاجتهاد في غيره من أحكام الدين أم لا ؟
على وجهين بناء على اختلاف أصحابنا في هذا الأمر هل يجوز له أن ينظر في أحكام جيشه إذ كان مطلق الولاية . فمنهم من قال : يجوز له النظر في أحكامهم ، فعلى هذا يلزم أن يكون من أهل الاجتهاد في جميع الأحكام ، ومنهم من قال : لا يجوز له النظر في أحكامهم ويكون القاضي أحق بالنظر فيها منه ، فعلى هذا لا يلزم أن يكون من أهل الاجتهاد في غير الجهاد .