مسألة : قال
الشافعي : " ومن أسر منهم فإن أشكل بلوغهم فمن لم ينبت فحكمه حكم طفل ، ومن أنبت فهو بالغ ، والإمام في البالغين بالخيار بين أن يقتلهم بلا قطع يد
[ ص: 173 ] ولا عضو ، أو يسلم أهل الأوثان ويؤدي الجزية
أهل الكتاب ، أو يمن عليهم أو يفاديهم بمال أو بأسرى من المسلمين ، أو يسترقهم : فإن استرقهم أو أخذ منهم فسبيله سبيل الغنيمة : أسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل
بدر فقتل
عقبة بن أبي معيط ،
والنضر بن الحارث ، ومن على
أبي عزة الجمحي : على أن لا يقاتله ، فأخفره وقاتله يوم
أحد : فدعا عليه أن لا يفلت ، فما أسر غيره ، ثم أسر
ثمامة بن أثال الحنفي فمن عليه ، ثم أسلم وحسن إسلامه وفدى النبي - عليه السلام - رجلا من المسلمين برجلين من المشركين " .
قال
الماوردي : الأسرى ضربان : ذرية ، ومقاتلة .
فأما الذرية فهم
النساء والصبيان ، فلا يجوز قتلهم لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والولدان ، ويسترقون على ما سيأتي حكمه ، وأما
المقاتلة فهم الرجال ، وكل من بلغ من الذكور فهو رجل ، سواء اشتد وقاتل أم لا ؟ ويكون الإنبات فيهم بلوغا ، أو في حكم البلوغ ؟ على ما مضى من القولين لما روي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم أن من جرت عليه المواسي قتل ، ومن لم تجر عليه استرق ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة ، يعني سبع سماوات ، والإمام في رجالهم إذا أقاموا على شركهم مخير بين أربعة أحكام - يجتهد فيها رأيه - ليفعل أصلحها ، فيكون خيار نظر واجتهاد لا خيار شهوة وتحكم .
وخياره في الأربعة بين أن يقتل ، أو يسترق ، أو يفادى على مال أو أسرى ، أو يمن بغير فداء ، وقال
أبو يوسف : يكون مخيرا بين ثلاثة أشياء :
أن يقتل ، أو يسترق ، أو يفادى على مال أو أسرى ، وليس له أن يمن .
وقال
مالك : يكون مخيرا بين ثلاثة أشياء : أن يقتل ، أو يسترق ، أو يفادى على مال ، ولا يجوز أن يفادى بأسرى ، ولا أن يمن .
وقال
أبو حنيفة : يكون مخيرا بين شيئين : أن يقتل ، أو يسترق ، ولا يجوز أن يفادى ، ولا أن يمن ، فصار القتل والاسترقاق متفقا عليهما ، أما القتل فلقول الله تعالى :
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] .
وقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط صبرا يوم بدر ، فقال يا محمد : من للصبية ، فقال : النار ، وقتل
النضر بن الحارث يوم
بدر صبرا .
وأما الاسترقاق فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استرق سبي
بني قريظة ،
وبني المصطلق ،
وهوازن يوم
حنين .
وأما
الفداء والمن ، فاستدل
أبو حنيفة على المنع منهما بقول الله تعالى في فداء أسرى
بدر :
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض [ ص: 174 ] الدنيا [ الأنفال : 67 ] يعني المال
والله يريد الآخرة [ الأنفال : 67 ] . يعني العمل بما يفضي إلى ثواب الآخرة : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور فيهم أصحابه ، فأشار
أبو بكر باستبقائهم وأخذ فدائهم لعل الله أن يهديهم ، وأشار
عمر بقتلهم : لأنهم أعداء الله وأعداء رسوله ، فعمل على قول
أبي بكر ، وفادى كل أسير بأربعة آلاف درهم ، فأنكر الله تعالى على رسوله ما فعله من الفداء ، وقال :
لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] . وفيه تأويلان :
أحدهما :
لولا كتاب من الله سبق لأنه سيحل المغانم لكم
لمسكم فيما أخذتم من فداء الأسرى
عذاب عظيم قاله
ابن عباس .
والثاني :
لولا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحدا بعمل أتاه على جهالة
لمسكم فيما أخذتم ، من الفداء
عذاب عظيم قاله
ابن إسحاق : قال : وإذا منع من الفداء كالمنع من المن أولى ، والدليل على جواز المن والفداء قول الله تعالى :
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب [ محمد : 4 ] . وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه ضرب رقابهم صبرا بعد القدرة .
والثاني : أنه قتالهم المفضي إلى ضرب رقابهم في المعركة
حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق يعني بالإثخان الجراح ، وبشد الوثاق الأسر ، ثم قال بعد الأسر :
فإما منا بعد وإما فداء والمن العفو ، والفداء ما فودي به الأسير ، من مال أو أسير ، ثم قال :
حتى تضع الحرب أوزارها فيه تأويلان :
أحدهما : أوزار الكفر بالإسلام .
والثاني : أثقال السلاح بالظفر ، فورد بإباحة المن والفداء نص القرآن الذي لا يجوز دفعه ، ثم جاءت به السنة ، وروي
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من على ثمامة بن أثال بعد أن ربطه إلى سارية المسجد أسرا ، فمضى وأسلم في جماعة من قومه ، وحسن إسلامه ،
ومن على أبي عزة الجمحي يوم بدر ، وشرط عليه أن لا يعود لقتاله ، فلما عاد إلى مكة قال : سخرت من محمد ، وعاد إلى قتاله في أحد ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفلت ، فما أسر يومئذ غيره ، فقال : امنن علي فقال : هيهات ، ترجع إلى قومك فتقول سخرت من محمد مرتين ، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وضرب عنقه وليس هذا القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق الخبر : لأن المؤمن قد يلدغ من جحر مرتين ، وإنما هو على طريق التحذير .
ويدل على إباحة الفداء بالأسرى ، ما رواه
عمران بن الحصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فادى يوم
بدر رجلا برجلين ، وعلى الفداء بالمال ما فادى به أسرى
بدر .
[ ص: 175 ] فإن قيل : فقد أنكره الله تعالى عليه فعنه جوابان : أحدهما : أنه أنكره عليه قبل ورود إباحته ، وقد وردت الإباحة فزال الإنكار .
والثاني : أنه قيد إنكاره بشرط ، وهو قوله :
حتى يثخن في الأرض وفي إثخانه دليلان :
أحدهما : أنه كثرة القتل .
والثاني : الاستيلاء والظفر ، وقد أنعم الله تعالى بهما ، فزال الإنكار وارتفع المنع .