فصل : فإذا تقرر أن فرض
المصابرة في قتال المشركين أن يقفوا مصابرين لقتالهم مثليهم ، ولا يلزمهم مصابرة أكثر من مثليهم فلهم في القتال حالتان :
[ ص: 182 ] إحداهما : أن يرجوا الظفر بهم إن صابروهم فواجب عليهم مصابرة عدوهم حتى يظفروا بهم ، سواء قلوا أو كثروا ، وهذا أكثر مراد الآية .
والحال الثانية : أن لا يرجوا الظفر بهم ، فهاهنا يعتبر المشركون ، فإن كانوا أكثر من مثلي المسلمين جاز أن يولوا المسلمين عنهم ، ويرجعوا عن قتالهم ، فإن
أقاموا على المصابرة والقتال كان مقامهم أفضل إن لم يتحققوا التلف ، وفي جوازه إن تحقق وجهان :
أحدهما : يجب عليهم أن يولوا ، ولا يجوز أن يصابروا .
والوجه الثاني : يجوز لهم أن يصابروا ، ولا يجب عليهم أن يولوا ، وهذان الوجهان بناء على الاختلاف لوجهين فيمن أريدت نفسه ، هل يجب عليه المنع عنهما أم لا ؟ على وجهين ،
وإن كانوا مثلي المسلمين فأقل جرم على المسلمين أن يولوا عنها وينهزموا منهم إلا في حالتين :
إحداهما : أن يتحرفوا لقتال .
والثانية : أن يتحيزوا إلى فئة لقول الله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة [ الأنفال : 15 - 16 ] الآية ، فدل هذا الوعيد على أن الهزيمة لغير هذين من كبائر المعاصي ، وقد ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر ، فذكر فيها
الفرار من الزحف .
وروي عن
ابن عباس أنه قال : " من فر من ثلاثة لم يفر ، ومن فر من اثنين فقد فر " .
فأما
التحرف للقتال فهو أن يعدل عن القتال إلى موضع هو أصلح للقتال ، بأن ينتقل من مضيق إلى سعة ، ومن حزن إلى سهولة ، ومن معطشة إلى ماء ، ومن استقبال الريح والشمس إلى استدبارهما ، ومن موضع كمين إلى حرز أو يولي هاربا ليعود طالبا : لأن الحرب هرب وطلب وكر وفر ، فهذا وما شاكله هو التحرف لقتال .
وأما
التحيز إلى فئة فهو أن يولي لينضم إلى طائفة من المسلمين ليعود معهم محاربا ، وسواء كانت الطائفة قريبة أو بعيدة .
قال
الشافعي : " قريبة أو مبينة " يعني متأخرة ، حتى لو انهزم من
الروم إلى طائفة من الحجاز ، كان متحيزا إلى فئة .
روي عن
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال يوم
القادسية : أنا فئة كل مسلم ، فإن انهزم المسلمون من مثلي عددهم غير متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة فهم عصاة لله تعالى ، فسقة في دينهم ، إلا أن يتوبوا .
[ ص: 183 ] وهل يكون من شروط التوبة معاودة القتال استدراكا لتفريطه أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : أن من شرط صحتها معاودة القتال استدراكا لتفريطه .
والوجه الثاني : ليس من صحتها العود ، ولكن ينوي أنه متى عاد لم ينهزم إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، وسواء كان المسلمون فرسانا والمشركون رجالة ، في جواز انهزامهم من أكثر من مثلي عددهم ، أو كان المسلمون رجالة والمشركون فرسانا في تحريم انهزامهم من مثل عددهم .