مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " قال
الأوزاعي : فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
مكة عنوة : فخلى بين
المهاجرين وأراضيهم وديارهم ، وقال
أبو يوسف : لأنه عفا عنهم ودخلها عنوة وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا كغيره ( قال
الشافعي ) : ما دخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنوة : ما دخلها إلا صلحا ، والذين قاتلوا وأذن في قتلهم
بنو نفاثة ، قتلة
خزاعة ، وليس لهم
بمكة دار إنما هربوا إليها ، وأما غيرهم ممن دفع فادعوا أن
خالدا بدأهم بالقتال ، ولم ينفذ لهم الأمان وادعى
خالد أنهم بدءوه ثم أسلموا قبل أن يظهر لهم على شيء ، ومن لم يسلم صار إلى قبول الأمان بما تقدم من قوله - عليه السلام -
nindex.php?page=hadith&LINKID=925069من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، فمال من يغنم ولا يقتدي إلا بما صنع عليه الصلاة والسلام ، وما كان له خاصة فمبين في الكتاب والسنة ، وكيف يجوز قولهما بجعل بعض مال المسلم فيئا وبعضه غير فيء ؟ أم كيف يغنم مال مسلم بحال ؟ ( قال
المزني - رحمه الله - ) : قد أحسن والله
الشافعي في هذا وجود " .
[ ص: 224 ] قال
الماوردي : اختلف العلماء في
فتح مكة ، هل كان عنوة أو صلحا ؟ فذهب
الشافعي إلى أن
مكة فتحت صلحا بأمان علقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرط شرطه مع
أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام غداة يوم الفتح ، قبل دخول
مكة على إلقاء سلاحهم ، وإغلاق أبوابهم ، ووافق
الشافعي على فتحها صلحا
أبو سلمة بن عبد الرحمن ،
وعكرمة ،
ومجاهد ،
والزهري ،
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال
مالك ،
وأبو حنيفة ، وأكثر الفقهاء ، وأصحاب الرأي : إن
مكة فتحت عنوة ، فمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهلها ، فلم يسب ولم يغنم لعفوه عنهم ، واختلف من قال بهذا ، هل كان عفوه عنهم خاصا أو عاما لجميع الولاة : فقال
أبو يوسف : كان هذا خاصا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعفو عما فتحه عنوة وليس ذلك لغيره من الأئمة .
وقال غيره : بل عفوه عام في الأئمة بعده ، يجوز لهم أن يعفوا عما فتحوه عنوة كما جاز عفو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
أهل مكة ، وقد فتحها عنوة ، وهذا هو تأثير الخلاف في فتحها عنوة أو صلحا : أن من ذهب إلى فتحها صلحا لم يجعل للإمام أن يعفو عما فتح عنوة ، ومن ذهب إلى فتحها عنوة جعل للإمام أن يعفو عما فتحه عنوة ، واستدل من ذهب إلى فتحها عنوة بقول الله تعالى
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله [ الفتح : 1 ، 2 ] يعني
مكة ، والفتح المبين الأقوى ، فدل على أنه العنوة وبقوله تعالى :
إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر : 1 ، 2 ] ، وظاهر النصر هو الغلبة والقهر ، وبقوله
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ، [ الفتح : 24 ] . فصرح القول بالظفر فدل على العنوة ، وبقوله تعالى :
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول [ التوبة : 13 ] . وهذا توبيخ على ترك القتال ، ثم قال بعده :
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، وهذا أمر بالقتال ، فصار حتما لا يجوز على الرسول خلافه ، وبقوله تعالى :
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم [ محمد : 35 ] . فنهاه عن السلم مع قوته ، وقد كان في دخول
مكة قويا ، فكانت هذه الآيات الخمس من دلائلهم ، واستدلوا عليه من السنة بنقل السيرة التي نقلها الرواة ، فتمسكوا بأدلة منها ، فمن ذلك ، وهو سبب الفتح أن
قريشا لما نقضت صلح
الحديبية بمن قتلت من
خزاعة ، وأتى وفد
خزاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستنصرين ، وهم أربعون رجلا فيهم
عمرو بن سالم ، ثم قال
عمرو فأنشده :
اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
حتى أتى على شعره قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925070نصرت يا عمرو بن سالم ، والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا ، إن شاء الله ، وحقق هذه اليمين بمسيره بعد رد
أبي سفيان بن حرب خائبا ، وسار في عشرة آلاف فيهم ألفا دارع ودخل بهم
مكة ، وعلى رأسه مغفر ،
[ ص: 225 ] وراياته منشورة ، وسيوفه مشهورة ، قالوا : وهذه صفة العنوة التي حلف بها أن يغزوهم .
قال : وقد روى
أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل
مكة يوم الفتح عنوة ، وهو من أخص أصحابه وأقربهم منه ، فكان ذلك نصا .
قالوا : وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=925071روى أبو هريرة قال : شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة فقال لي : يا أبا هريرة ، ادع الأنصار فدعوتهم ، فأتوه مهرولين فقال لهم : إن قريشا قد أوبشت أوباشها ، فإذا لقيتموهم فاحصدوهم حصدا ، حتى تلقوني على الصفا فكان أمره بالقتل نافيا لعقد الصلح .
قالوا : ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925072من أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ، ولو كان دخوله عن صلح كان جميع الناس آمنين بالعقد .
قالوا : ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل
مكة طاف بالبيت ، وفيه جماعة من أشراف
قريش ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
ما تروني صانعا بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، فاصنع بنا صنع أخ كريم ! فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، ومثلي ومثلكم ، كما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين [ يوسف : 92 ] . وهذا دليل على أنهم بالعفو آمنوا لا بالصلح .
قالوا : ولأن
أم هانئ أمنت يوم الفتح رجلين فهم
علي بن أبي طالب بقتلهما ، فمنعته ، وأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال
nindex.php?page=hadith&LINKID=924923قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، ولو كان صلحا لاستحقا الأمان لا بالإجارة ، ولما استجاز علي أن يهم بقتلهما .
قالوا : وقد روي عن
عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : كل البلاد فتحت بالسيف إلا
المدينة ، فإنها فتحت بالقرآن ، أو قالت بلا إله إلا الله ، فدل على أن
مكة فتحت بالسيف عنوة .
قالوا : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925074إن الله حبس الفيل عن مكة ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لأحد قبلي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ثم هي حرام إلى يوم القيامة ، فدل تسليطه عليها ساعة من النهار على أنه كان محاربا فيها ، غير مصالح .
قالوا : وقد روي أن
حماس بن قيس بن خالد أعد سلاحا للقتال يوم الفتح فقالت له امرأته : والله ما أرى أنك تقوم
بمحمد وأصحابه ، فقال لها : إني لأرجو أن أخدمك بعضهم ، وخرج مرتجزا يقول :
إن تقبلوا اليوم فما لي عله هذا سلاح كامل وأله
[ ص: 226 ] وذو غزارين سريع السله
ولحق
بصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ، فيمن يقاتل
خالد بن الوليد في
قريش وعاد منهزما ، فدخل بيته وقال لامرأته : أغلقي علي الباب ، فقالت له امرأته : فأين ما كنت تعدنا ؟ فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمه إذ فر صفوان وفر عكرمه
وأبو يزيد قائم كالمؤتمه واستقبلتهم بالسيوف المسامه
يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
فدل على دخولها بالقتال .
قالوا : ولأنه صالحهم على دخولها لترددت بينه وبينهم الرسل ، ولكتب فيه الصحف ، كما فعل معهم عام
الحديبية ، وهو لم يلبث حتى دخولها بعسكره قهرا ، فكيف يكون صلحا .
ودليلنا على دخولها صلحا قول الله تعالى :
ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا [ الفتح : 22 ] . يعني ، والله أعلم ،
أهل مكة ، فدل على أنهم لم يقاتلوا ولو قاتلوا لم ينصروا ، وقال تعالى :
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة [ الفتح : 24 ] . فأخبر بكف الفريقين ، والكف يمنع من العنوة ، وقوله تعالى :
من بعد أن أظفركم عليهم يريد به الاستعلاء والدخول ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستعليا في دخوله ، وقال تعالى :
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله [ الفتح : 27 ] والمحارب لا يكون آمنا ، فاقتضى أن يكون دخولها صلحا لا عنوة ، وقال تعالى في سورة الرعد
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله [ الرعد : 31 ] . الآية فأخبر بإصابة القوارع ولهم إلى أن يحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريبا منهم فصار غاية قوارعهم ، وهذه حال
أهل مكة إلى أن نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران ، فانتهت القوارع ، فصار ما بعدها غير قارعة ، والمخالف يجعل ما بعد بحلوله أعظم القوارع ، وفي هذا إبطال لقوله ، وفيها معجزة وهو الإخبار بالشيء قبل كونه : لأن سورة الرعد مكية .
ويدل عليه نقل السيرة في الدخول إليها واتفاق الرواة عليها ، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تأهب للمسير إليها أخفى أمره وقال
اللهم خذ على أبصارهم حتى لا يروني إلا بغتة ، وسار محثا حتى نزل بمر الظهران ، وهي على سبعة أميال من
مكة ، وكان
العباس بن عبد المطلب قد لقيه قبل ذلك بالسقيا ، فسار معه وأمر كل رجل من أصحابه أن يوقد نارا ، فأوقدت عشرة آلاف نار أضاءت بها بيوت
مكة ، وفعل ذلك
[ ص: 227 ] إرهابا لهم وإيثارا للبقيا عليهم ، لينقادوا إلى الصلح والطاعة ، ولو أراد اصطلامهم لفاجأهم بالدخول ، ولكنه أنذر وحذر فلما خفي عليهم من نزل بهم خرج
أبو سفيان بن حرب ،
وحكيم بن حزام ،
وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار ، وقال
العباس وأشياخ
قريش : والله لئن دخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنوة إنه لهلاك
قريش آخر الدهر ، فركب بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشهباء وتوجه إلى
مكة : ليعلم
قريشا حتى يستأمنوه ، فبينما هو بين الأراك ليلا ، إذا سمع كلام
أبي سفيان ، فعرف صوته ، فتعارفا واستخبره عن الحال ، فأخبره بنزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرة آلاف لا طاقة لهم بها فاستشاره ، فقال : تأتيه في جواري فتسلم ، وتستأمنه لنفسك وقومك ، وأردفه على عجز البغلة ، وعاد مسرعا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بحاله فقال : اذهب به فقد أمناه حتى تأتيني به من الغد ، فلما أصبح أتاه به ، فأسلم وعقد معه الأمان
لأهل مكة ، على أن لا يقاتلوه ، فقال
العباس : يا رسول الله إن
أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فقال : - عليه السلام - : من دخل دار
أبي سفيان فهو آمن ، من دخل دار
حكيم بن حزام فهو آمن ، من ألقى سلاحه فهو آمن ، من أغلق بابه فهو آمن فكان عقد الأمان متعلقا بهذا الشرط .
وهذا يخالف حكم العنوة فدل على انعقاد الصلح وجود هذا الشرط ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمن
أبا سفيان ، وعقد معه أمان
قريش على الشروط المقدمة ، أنفذه إلى
مكة مع
العباس ، ثم استدرك مكر
أبي سفيان ، وأنفذ إلى
العباس أن يستوقف
أبا سفيان بمضيق الوادي : ليرى جنود الله ، فقال
أبو سفيان : أغدرا يا
بني هاشم ، فقال له
العباس : بل أنت أغدر وأفجر ، ولكن لترى جنود الله في إعزاز دينه ونصرة رسوله ، فلو كان دخوله عنوة لم يقل
أبو سفيان : أغدرا ، ولم يجعل استيقافه غدرا ، فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد كتائبه المتقدمة ، قال
أبو سفيان للعباس : لقد أوتي ابن أخيك ملكا عظيما ، فقال له
العباس : ويحك إنها النبوة ، فقال : نعم إذا ، ثم أرسله
العباس إلى
مكة منذرا لقومه بالأمان ، فأسرع حتى دخل
مكة ، فصرخ في المسجد ، فقال : يا معشر
قريش ، هذا
محمد قد جاء بما لا قبل لكم به ، قالوا : فمه ، قال : من دخل داري فهو آمن ، قالوا : وما تغني عنا دارك ، قال : من دخل المسجد فهو آمن ، من أغلق بابه فهو آمن ، من ألقى سلاحه فهو آمن ، فحينئذ كفوا واستسلموا ، وهذا من شواهد الصلح دون العنوة .
ويدل عليه أن راية
الأنصار كانت مع
سعد بن عبادة عند دخوله
مكة ، فقال
سعد ، وهو يريد دخولها :
اليوم يوم الملحمه اليوم تسبى الحرمه اليوم يوم يذل الله
قريشا .
[ ص: 228 ] فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعزله عن الراية وسلمها إلى ابنه
قيس بن سعد وقال :
اليوم يوم المرحمه اليوم تستر فيه الحرمه اليوم يعز الله
قريشا .
فجعله يوم مرحمة ، وأنكر أن يكون يوم ملحمة ، فدل على الصلح دون العنوة ، ويدل عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم أمامه
الزبير بن العوام ، ومعه رايته ، وأمره أن يدخل
مكة من كداء العليا ، وهي أعلى
مكة ، وفيها دار
أبي سفيان ، وأنفذ
خالد بن الوليد ليدخل من الليط ، وهي أسفل
مكة ، وفيها دار
حكيم بن حزام ، ووصاهما أن لا يقاتلا إلا من قاتلهما على ما قرره من الشرط مع
أبي سفيان ، فأما
الزبير فلم يقاتله أحد ، ودخل حتى غرس الراية بالحجون ، وأما
خالد بن الوليد فإنه لقيه جمع من
قريش وحلفائهم
بني بكر ، فيهم
عكرمة بن أبي جهل ،
وصفوان بن أمية ،
وسهيل بن عمرو ، وقاتلوه ، فقاتلهم حتى قتل من
قريش أربعة وعشرين رجلا ، ومن
هذيل أربعة رجال ، ولوا منهزمين ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارقة على رءوس الجبال ، قال : ما هذا ، وقد نهيت
خالدا عن القتال ، فقيل له : إن
خالدا قوتل فقاتل ، فقال : قضى الله خيرا ، وأنفذ إليه أن يرفع السيف ، وهذا من دلائل الصلح دون العنوة : لأنه لو كان عنوة لم يذكر القتال ، ولم ينه عنه ، ويدل عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم الفتح حين سار لدخول
مكة كان يسير مع
أبي بكر وأسيد بن حضير على ناقته القصواء ، وعليه عمامة سوداء ، ولو دخلها محاربا لركب فرسا ، ثم قص على
أبي بكر أنه رأى في المنام أن كلبة أقبلت من
مكة ، فاستلقت على ظهرها ، وانفتح فرجها ، ودر لبنها فقال له
أبو بكر : ذهب كلبهم ، وأقبل خيرهم وسيتضرعون إليك بالرحم ، ثم خرج نساء
مكة فلطخن وجوه الخيل بالخلوق ، وفيهم
قتيلة بنت النضر بن الحارث ، فاستوقفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقف لها ، وكان قتل أباها
النضر بن الحارث صبرا ، فأنشدته :
يا راكبا إن الأثيل مظنة عن صبح خامسة وأنت موفق
بلغ به ميتا فإن تحية ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة جادت لمانحها وأخرى تخنق
أمحمد ها أنت صنو نجيبة من قومها والفحل فحل معرق
فالنضر أقرب من قتلت قرابة وأحقهم إن كان عتقا يعتق
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت سمعت شعرها ما قتلته ، ولما رأى الخلوق على خيله ، والنساء يمسحون وجوه الخيل بخمورهن ، قال : لله در حسان ، كأنما ينطق عن
[ ص: 229 ] روح القدس ، فقال له
العباس : كأنك يا رسول الله تريد قوله :
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
تنازعنا الأعنة مسرعات يلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء
فقال : نعم ، ودخل
مكة وابن أم مكتوم ، وهو ضرير بين يديه ، وهو يقول :
يا حبذا مكة من وادي أرض بها أهلي وعوادي
بها أمشي بلا هادي أرض بها ترسخ أوتادي
فدلت هذه الحال في استقبال النساء وسكون النفوس إليه والرؤيا التي قصها على الصلح دون العنوة ، ويدل على ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استثنى يوم الفتح قتل ستة من الرجال ، وأربع من النساء ، وإن تعلقوا بأستار
الكعبة .
فأما الرجال :
فعكرمة بن أبي جهل ،
وهبار بن الأسود ،
وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ،
ومقيس بن صبابة ،
والحويرث بن نقيد ،
وعبد الله بن خطل .
وأما النسوة :
فهند بنت عتبة ،
وسارة مولاة عمرو بن هاشم ، وبنتان
لابن خطل ، فقتل من الرجال ثلاثة :
ابن خطل تعلق بأستار
الكعبة ، فقتله
سعيد بن حريث ،
وأبو برزة الأسلمي ، وأما
مقيس بن صبابة فقتله
نميلة بن عبد الله ، وأما
الحويرث بن نقيد فقتله
علي بن أبي طالب ، وقتلت إحدى بنتي
ابن خطل ، واستؤمن لمن بقي منهم ، فدل استثناء هؤلاء النفر على عموم الأمان ، ولو لم يكن أمان لم يحتج إلى استثناء ، وقد قال
بجير بن زهير بن أبي سلمى في هذا الصلح ما عير به
قريشا فقال :
وأعطينا رسول الله منا مواثيقا على حسن التصاف
وأعطينا المقادة حين قلنا تعالوا بارزونا بالثقاف
ويدل عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل
مكة ضربت له بالحجون قبة أدم عند رايته التي ركزها
الزبير ، فقيل له : هلا نزلت في دورك ، فقال : وهل ترك لنا
عقيل من ربع ، ولو كان دخوله
مكة عنوة لكان رباع
مكة كلها له ، ثم بدأ بالطواف على ناقته القصوى ، وكان حول
الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، وكان أعظمها هبل ، وهو تجاه
الكعبة ، فكان كلما مر بصنم منها أشار إليها بعود في يده ، وقال : جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا ، فيسقط الصنم لوجهه وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم أتاه الرجال والنساء فأسلموا طوعا وكرها ، وبايعوه ، وليس هذه حال من قاتل وقوتل ، فدلت على الصلح والأمان ، ويدل على ذلك ما رواه
عبيد بن عمير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
[ ص: 230 ] قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=925081لم تحل لي غنائم مكة ، والعنوة توجب إحلال غنائمها ، فدل على دخولها صلحا ، وفقدت
أخت أبي بكر عقدا لها ، فذكرت ذلك
لأبي بكر - رضي الله عنه - فقال
أبو بكر : ذهبت أمانات الناس ، ولو حلت الغنائم لم يكن أخذه خيانة ، تذهب بها الأمانة . فإن قيل : إنما لم تحل غنائمها لأنها حرم الله الذي يمنع ما فيه ، فعنه ثلاث أجوبة :
أحدها : أن عموم قول الله تعالى :
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه [ الأنفال : 41 ] يمنع من تخصيص الحرم بغير دليل .
والثاني : أنه لما لم يمنع الحرم من القتل ، وهو أغلظ من المال ، حتى قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتل كان أولى أن لا يمنع من غنائم الأموال ، ولو منعهم الحرم من ذلك لما احتاجوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمان .
والثالث : أن
ما في الكعبة من المال أعظم حرمة ، مما في منازل الرجال .
وقد روى
مجالد ، عن
الشعبي قال : لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
مكة وجد في
الكعبة مالا كانت العرب تهديه ، فقسمه في
قريش ، فكان أول من دعاه للعطاء منهم
سعيد بن حريث ، ثم دعا
حكيم بن حزام فقال : خذ كما أخذ قومك ، فقال
حكيم : آخذ خيرا أو أدع ؟ قال : بل تدع . قال : ومنك ؟ قال : ومني اليد العليا خير من اليد السفلى ، فقال : حكيم : لا آخذ من أحد بعدك أبدا ، فلما لم تمنع
الكعبة ما فيها وحرمة الحرم بها كان الحرم أولى أن لا يمنع ما فيه ، لكن لما كان ما في الحرم أموال لمن قد استأمنوه حرمت عليه بالأمان ، ولما لم يكن ما في
الكعبة مال لمستأمن لم يحرم عليه بالأمان .
فإن قيل : إنما لم يغنمها ، وإن ملك غنائمها : لأنه عفا عنها ، كما عفا عن قتل النفوس ، فهل يجوز له وللأمة بعده أن يعفوا عن القتال لأنه من حقوق الله تعالى المحضة المعتبرة بالمصلحة ، وليس له وللأئمة بعده أن يعفوا عن الغنائم ، إلا بطيب أنفس الغانمين : لأن من حقوقهم ، ألا تراه لما أراد العفو عن سبي
هوازن استطاب نفوس الغانمين ، حتى ضمن لمن لم تطب نفسه بحقه ست قلائص عن كل رأس ، وما استطاب في غنائم
مكة نفس أحد ، فدل على أنها لم تملك لأجل الأمان الذي انعقد به الصلح ، فلم يحتج فيها إلى استطابة النفوس ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفذ السرايا من
مكة إلى ما حولها من
عرفات وغيرها ، فيأتوه بغنائمها : لأنها لم يكن لهم أمان .
ويدل على ذلك ما كان
أبو حامد المروزي يعتمده أن نقل الموجب يغني عن نقل الموجب ، وموجب العنوة القتل والغنيمة ، وموجب الصلح العفو والمن ، فلما عفا ومن ، ولم يقتل ولم يغنم ، وأنكر حين رأى
خالدا قد قتل كان هذا دليلا على الصلح ، ومانعا من العنوة وصار الصلح كالمنقول لنقل موجبه من العفو .
[ ص: 231 ] فأما الجواب عن قول الله تعالى :
إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر : 1 ] فمن وجهين :
أحدهما : أن الفتح ينطلق على الصلح والعنوة : لقولهم : فتحت
مكة صلحا ، وفتحت عنوة ؛ لأن الفتح هو الظفر بالبلد بعد امتناعه ، وكلا الأمرين ظفر بممتنع .
والثاني : أن هذه السورة نزلت بعد فتوحه كلها ، فكانت خبرا عن ماضيها قال
مقاتل : نزلت بعد فتح
الطائف ،
والطائف آخر فتوحه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن آخر وطأة وطئها الله
بوج يعني آخر ما أظفر الله بالمشركين
بوج ، ووج هي
الطائف ، فلما نزلت هذه السورة فرح بها
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وبكى
العباس لها فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يبكيك يا عم ؟ قال : نعيت إليك نفسك قال : إنه لكما تقول ، وسميت هذه السورة سورة التوديع .
وأما الجواب عن قوله
إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ الفتح : ا ] . فمن وجهين :
أحدهما : ما حكاه
الشعبي أنها نزلت في صلح
الحديبية قبل فتح
مكة : لأنه أصاب فيها ما لم يصب في غيرها بويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل
خيبر ، وظهرت
الروم على
فارس ، تصديقا لخبره وبلغ الهدي محله .
والثاني : أنها نزلت في فتح
مكة ، والفتح يكون على كلا الوجهين .
وأما الجواب عن قوله
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم [ الفتح : 24 ] . فهو أن الكف يمنع من القتال ، وقوله
من بعد أن أظفركم عليهم [ الفتح : 24 ] . فهو أنه قد أظفره بهم حين لم يقاتلوه واستسلموا عفوا ، فكان أبلغ الظفر بعد المحاربة ، وقد ذكر بعض أصحابنا أنها نزلت عام
الحديبية وأن قوله
ببطن مكة يعني الحرم ، وحكي عن
ابن عباس أن مضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
الحديبية قد كان في الحل ، ومصلاه في الحرم ، وقد يعبر
بمكة عن الحرم ، وهذا تكلف في الجواب يخالف الظاهر .
فأما الجواب عن قوله تعالى :
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ التوبة : 14 ] . فهو أنه أمر بقتالهم إن امتنعوا ، وبالكف عنهم إن استسلموا لقوله تعالى :
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها [ الأنفال : 61 ] . وهم يوم الفتح استسلموا ولم يمتنعوا .
وأما الجواب عن قوله
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم [ محمد : 35 ] . فهو أن النهي توجه إلى أن يدعو المسلمون إلى الصلح ، وهم ما دعوا إليه وإنما دعا إليه المشركون ، فخرج عن النهي .
وأما الجواب عن الاستدلال بصفة مسيره وقسمه بالله أن يغزوهم ودخوله إليه بسيوف مشهورة ورايات منشورة ، فمن وجهين :
[ ص: 232 ] أحدهما : أن الصلح والأمان تحدد
بمر الظهران ، فلا اعتبار بما كان قبله ، وقسمه أن يغزوهم فقد قال فيه إن شاء الله فاستثنى على أنه قد غزاهم ؛ لأنه قهرهم ودخل عليهم غالبا .
والثاني : أن نشر الرايات وسل السيوف من عادات الجيوش في الصلح والعنوة ، وإنما يقع بين الفرق في الحالتين بالقتال والمحاربة .
وأما الجواب عن حديث
أبي بن كعب أنه دخلها عنوة من وجهين :
أحدهما : أنه لما دخلها على كره منهم وظهور عليهم صار موصوفا بالعنوة .
والثاني : أن العنوة الخضوع ، كما قال الله تعالى :
وعنت الوجوه للحي القيوم [ طه : 111 ] . أي : خضعت ، وهم قد خضعوا حين استسلموا لأمانه .
وأما الجواب عن حديث
أبي هريرة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925085احصدوهم حصدا حتى تلقوني على الصفا فمن وجهين :
أحدهما : أنه قال قبل نزوله
بمر الظهران وعقد الأمان مع
أبي سفيان : لأن
أبا بكر بن المنذر روى أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925086احصدوهم غدا حصدا حتى تلقوني على الصفا ، ورواه
أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الأموال " عن
حماد بن سلمة ، عن
ثابت ، عن
عبد الله بن رباح ، عن
أبي هريرة .
والثاني : أنه أشار بذلك إلى من قاتل
خالد بن الوليد أسفل
مكة من
قريش وبني نفاثة .
وأما الجواب عن قولهم : لو كان صلحا لأمن جميع الناس ولم يخصه بمن ألقى سلاحه وأغلق بابه ، فهو أنه جعل عقد الأمان معلقا بهذا الشرط ، فصار خاصا في اللفظ عاما في الحكم .
وأما الجواب عن قوله
لقريش :
أنتم الطلقاء ، فهو لأنه أمنهم بعد الخوف ، وأحسن إليهم بعد إساءتهم ، وصفح عنهم مع قدرته عليهم ، فصاروا بترك المؤاخذة ، طلقاء وبالإحسان عتقاء .
وأما الجواب عن قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924923قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، فهو أن الرجلين لم يظهر منهما شرط الأمان : لأنهما كانا شاكين في سلاحهما ، وقد علق شرط الأمان بإلقاء السلاح ، وغلق الأبواب ، فبقيا على حكم الأصل : فلذلك استجاز
علي بن أبي طالب - عليه السلام - أن يقتلهما حتى استجارا
nindex.php?page=showalam&ids=94بأم هانئ ، فأمنهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأما الجواب عن حديث
عائشة رضي الله عنها " كل البلاد فتحت بالسيف إلا
المدينة " فهو أن معناه أن كل البلاد فتحت بالخوف من السيف إلا
المدينة ولم ترد العنوة والصلح : لأنه قد فتح بعض البلاد صلحا .
وأما الجواب عن قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925087إن الله حبس الفيل عن مكة وسلط عليها رسوله ، فهو
[ ص: 233 ] محمول على أن الفيل لم يظفر بها ، ولا دخلها ، وأظفر الله رسوله بها حتى دخلها .
وأما الجواب عن حديث
حماس بن قيس ، وما أنشده من شعره : فهو أنه كان حليف
بني بكر الذين قاتلوا
خالدا ، ولم يكن من
قريش القابلين لأمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قد آمن من ألقى سلاحه وأغلق بابه ، فلئن دل أول أمره على العنوة ، فلقد دل آخره على الصلح ، وابتدأ بالقتال بجهله بعقد الأمان ، ثم رجع إلى شرط الأمان حين علم به .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن عقد الصلح ما ترددت فيه الرسل وكتب فيه الصحف
كالحديبية ، فهو أن ذلك صلح على الموادعة والكف ، فاحتاج إلى الرسل وكتب الصحف : وهذا أمان استسلام وتمكين علق بشرط ، فاستغنى فيه عن تردد الرسل وكتب الصحف ، واقتصر فيه على أخبار
أبي سفيان ،
وحكيم بن حزام بحاله ، وذكره
لقريش ما تعلق بشرطه ، واقتصر من قبولهم على العمل به دون الرضا والاختبار .