مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ومن سبي منهم من الحرائر فقد رقت وبانت من الزوج كان معها أو لم يكن : سبى النبي - صلى الله عليه وسلم - نساء
أوطاس وبني المصطلق ورجالهم جميعا فقسم السبي وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائض حتى تحيض ، ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها وليس قطع العصمة بينهن وبين أزواجهن بأكثر من استبائهن " .
قال
الماوردي : ومقدمة هذه المسألة أن سبي الذرية موجب لرقهم ، والذرية هم النساء والأطفال ، فإذا أحيزوا بعد تقضي الحرب رقوا ، فأما سبي المقاتلة فلا يرقون بالسبي ، حتى يسترقوا . والفرق بينهما : أن لأمير الجيش خيارا في الرجال بين القتل والفداء والمن
[ ص: 241 ] والاسترقاق ، فلم يتعين الاسترقاق إلا بالاختيار ، ولا خيار له في الذراري ، فرقوا بالسبي لاختصاصهم بحكم الرق .
فإذا تقرر هذا لم يخل
حدوث السبي في الزوجين من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن تسبى الزوجة دون الزوج ، فقد بطل نكاحها بالسبي بوفاق من
الشافعي وأبي حنيفة في الحكم مع اختلافهما في العلة ، فهي عند
الشافعي حدوث الرق ، وعند
أبي حنيفة اختلاف الدار .
والقسم الثاني : أن يسبى الزوج دون الزوجة ، فإن لم يسترق ومن عليه أو فودي به لم يبطل نكاح زوجته عند
الشافعي ،
وأبي حنيفة ، لكن عليه عند
الشافعي حدوث الرق ، وعند
أبي حنيفة اختلاف الدار .
القسم الثالث : أن يسبى الزوجان معا ، فعند
الشافعي يبطل النكاح بينهما بحدوث الرق ، وعند
أبي حنيفة لا يبطل النكاح : لأنه لم يختلف الدار بهما ؛ استدلالا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما استرق سبي
هوازن بأوطاس جاءته
هوازن بعد إسلامهم ليستعطفونه ويستنزلونه من على سبيهم وردهم عليهم ، وأكثرهم ذوات أزواج وأقرهم على مناكحهم ، ولو بطل النكاح بحدوث الرق لأعلمهم ، ولأمرهم باستئناف النكاح بينهم ، وفي ترك ذلك دليل على بقاء النكاح وصحته : ولأن الرق لا يمنع من ابتداء النكاح ، فوجب أن لا يمتنع من استدامته كالصغر : ولأنه قد يطرأ الرق على الحرية ، كما تطرأ الحرية على الرق ، فلما لم يبطل النكاح بحدوث الحرية على الرق ، وجب أن لا يبطل بحدوث الرق على الحرية .
ودليلنا قول الله تعالى :
حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء : 22 - 23 ] ، والمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج ، فحرمهن إلا ما ملكت أيماننا بحدوث السبي ، فكان على عمومه في الإباحة فيمن كان معها زوجها ، أو لم يكن .
وروى
أبو سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في سبي
هوازن ، ولو كان النكاح باقيا لما جازت الإباحة ، ولكان التحريم باقيا .
والقياس : هو أنه رق طرأ على نكاح ، فوجب أن يبطل به ، كما لو استرق أحدهما .
فإن قيل : إنما بطل النكاح باسترقاق أحدهما : لاختلاف الدارين ، فالجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أنه إذا اتفق موجب العلتين لم يتنافيا ، فلم يصح التعارض .
[ ص: 242 ] والثاني : أن اختلاف الدارين لا يمنع من صحة النكاح ؛ لأن أبا
سفيان بن حرب ،
وحكيم بن حزام أسلما
بمر الظهران ، وزوجاتهما
بمكة ، فأقرهما على نكاحهما مع اختلاف الدارين بينهما ، أولا ترى أن
المسلم لو دخل دار الحرب فنكح زوجة ، وله في دار الإسلام أخرى لم يبطل نكاح زوجته في دار الإسلام ، ولو عاد إلى دار الإسلام لم يبطل نكاح زوجته في دار الحرب مع اختلاف الدارين ، فبطل أن تكون علة في فسخ النكاح .
وقياس آخر : أن النكاح ملك ، فوجب أن يزول بحدوث الرق ، كالأموال على أن ملك الأموال يشتمل على العين والمنفعة ، والنكاح مختص بالاستمتاع الذي هو منفعة ، ولك في هذا التعليل قياس ثالث : أنه عقد على منفعة ، فوجب أن يبطل بحدوث الرق ، كما لو آجره الحربي نفسه ثم استرق .
فأما الجواب عن استدلالهم بسبي
هوازن : هو أنهم كانوا عند ذلك على شركهم ، وإنما ظهر إسلام وافدهم فلم يلزمه بيان مناكحهم قبل إسلامهم .
وأما الجواب عن تعليلهم بأنه لما لم يمنع الرق من ابتداء النكاح لم يمنع من استدامته ، فمن وجهين :
أحدهما : انتقاضه بالخلع يمنع من استدامة النكاح ، ولا يمنع من ابتدائه .
والثاني : أن حدوث الرق لا يتصور في ابتداء العقد ، ويتصور في أثنائه فلم يصح الجمع بين ممكن وممتنع .
وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما لم يؤثر في النكاح حدوث الحرية على الرق ، كذلك لا يؤثر فيه حدوث الرق على الحرية ، فهو أن حدوث الحرية كمال فلم يؤثر في النكاح ، وحدوث الرق نقص فجاز أن يؤثر في النكاح .