فصل : فإذا استقر ما ذكرنا من حدود السواد ومساحة أراضيه وقدر مزروعه وفضل ما بينه وبين
العراق ، فقد اختلف العلماء في
فتحه هل كان عنوة أو صلحا : فقدم
الشافعي من
الحجاز إلى
العراق ، وأهل
العراق أعلم بفتوح سوادهم من أهل
الحجاز ، فسألهم عنه فاختلفوا عليه ، فروى بعضهم أن السواد فتح صلحا .
وروى له بعضهم أن السواد فتح عنوة .
وروى له آخرون أن بعض السواد فتح صلحا ، وبعضه فتح عنوة .
فلما اختلفوا عليه في النقل والرواية نظر أثبت ما رووه من الأحاديث ، وأصحها ، فكان حديث
جرير بن عبد الله البجلي .
[ ص: 258 ] قال
الشافعي : أخبرنا الثقة يعني :
أبا أسامة ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن
قيس بن أبي حازم ، عن
جرير بن عبد الله البجلي قال : كانت
بجيلة ربع الناس ، فقسم لهم ربع السواد ، فاستغلوه ثلاثا - أربع سنين - شك
الشافعي - فقدمت على
عمر ، ومعي فلانة بنت فلان - امرأة منهم قد سماها ، ولم يحضرني ذكر اسمها - فقال
عمر : " لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم ، ولكن أرى أن تردوا على الناس " . قال
الشافعي : " وكان في حديثه وعافني من حقي نيفا وثمانين دينارا ، وفي الحديث : فقالت فلانة : قد شهد أبي
القادسية ، وثبت سهمه ، ولا أسلم حتى تعطيني كذا وكذا ، فأعطاها إياه .
وروى غير
الشافعي ، فقالت
أم كرز : لا أنزل عن حقي حتى تحملني على ناقة ذلول ، عليها قطيفة حمراء ، وتملأ كفي ذهبا ، ففعل ذلك بها ، فكان ما أعطاها من العين ثمانين دينارا ، فمن ذهب إلى أن السواد فتح صلحا ، فقد أشار
الشافعي إليه في كتاب قسم الفيء ، واستدل بهذا الحديث من وجهين :
أحدهما : أن
عمر انتزعه من أيدي الغانمين حين علم بحصوله معهم ، ولو كان عنوة لكان غنيمة لهم ، ولم يجز انتزاعه منهم .
والثاني : قول
عمر : لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم ، فدل على أنه انتزعه منهم بحق لم يستجز تركه معهم ، وهذا حكم الصلح دون العنوة .
وذهب
الشافعي إلى أن فتح السواد عنوة ، وهو الذي نص عليه في هذا الموضع المنقول عنه في أكثر كتبه .
والدليل عليه من هذا الحديث خمسة أوجه :
أحدها : أنه أقر السواد في أيدي الغانمين ثلاث سنين ، أو أربع يستغلونه ، ولم ينتزعه منهم ، ولو لم يكن لهم فيه حق الغنيمة لم يستجز تركه عليهم هذه المدة .
والثاني : أنهم اقتسموه قسمة الغنائم حتى صار
لبجيلة ، وهم ربع الناس ربع السواد ، وما اقتسموه إلا بأمر
عمر ، وعن علمه : لأنه من الأمور العامة والفتوح العظيمة التي لا يستبد الجيش فيها بآرائهم إلا بمطالعته ، وأمره .
والثالث : أنهم لو تصرفوا فيه بغير حق لاسترد منهم ما استغلوه : لأنه يكون لكافة المسلمين دونهم .
والرابع : أنه عاوض من لم يطب نفسا بالنزول عن سهمه بعوض دفعه إليهم ، جرى عليه حكم الثمن حتى أعطى
جريرا ،
وأم كرز ما أعطى ، وهو لا يبذل من مال المسلمين إلا في حق .
[ ص: 259 ] والخامس : أنه استطاب نفوسهم عنه ، ولو كانت أيديهم فيه بغير حق لأخذه منهم جبرا .
فدلت هذه الوجوه على أنه كان عنوة مغنوما اقتداء في استطابة نفوسهم عنه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبي
هوازن حين سألوه بعد إسلامهم المن عليهم ، فخيرهم بين أموالهم وأهليهم ، فاختاروا الأهل والأولاد ، فمن عليهم ، وعرف العرفاء عن استنزال الناس عنوا ، وجعل لمن لم يطب نفسا بالنزول عن كل رأس من السبي ست قلائص حتى نزل جميعهم ، إلا
عيينة والأقرع إلى أن جدع
عيينة ، ونزل
الأقرع ، فلما استنزلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المن والتكريم كان استنزال
عمر للغانمين في عموم المصالح للمسلمين أولى وأوكد ، واختلف في السبب الذي استنزلهم
عمر لأجله على قولين :
أحدهما : أنه رأى إن أقاموا فيه على عمارته واستغلاله ، وألفوا ريف
العراق وخصبه تعطل الجهاد ، وإن أنهضهم عنه مع بقائه على ملكهم خرب مع جلالة قدره وكثرة استغلاله ، فعلى أن الأصلح إقرار في أيدي الدهاقين والأكرة الذين هم بعمارته أعرف ، وزراعته أقوم بخراج يضربه عليهم يعود نفعه على المسلمين ، ويتوفروا به على جهاد المشركين .
والثاني : أنه فعل ذلك لنظره في المتعقب : لأنه جعل مصري
العراق البصرة والكوفة وطنا للمجاهدين : ليخصوا بجهاد من بإزائهم من المشركين ، ويستمدوا بسواد عراقهم في أرزاقهم ونفقاتهم في جهادهم ، وعلم أنه إن أقره على ملكهم مع سعته وكثرة ارتفاعه بقي من بعدهم لا يجدون ما يستمدونه ، وقد قاموا مقامهم ، وسدوا مسدهم فرأى أن الأعم في صلاح أهل كل عصر أن يكون وقفا عاما على جميع المسلمين ليكون لأهل كل عصر فيه حظ يقوم بكفايتهم فاستنزلهم عن أصل ملكه ، وأمدهم بارتفاعه ليكون من يأتي بعدهم فيه بمثابتهم .
وقد روى
زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن
عمر بن الخطاب أنه قال : لولا أخشى أن يبقى آخر الناس لا شيء لهم لتركتكم ، وما قسم لكم ، لكن أحب أن يلحق آخرهم أولهم ، وتلا قوله تعالى :
والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ الحشر : 10 ] .