فصل : فإذا تقرر وجوب أخذ الجزية من الكفار ، لإقرارهم على الكفر في مأخوذة من بعضهم دون جميعهم .
واختلف في
المأخوذ منهم على أربعة مذاهب :
أحدها : - وهو مذهب
الشافعي - أنها تؤخذ من
أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ، ولا تؤخذ من غير
أهل الكتاب عربا ولا عجما ، فاعتبرها بالأديان دون الأنساب .
والثاني : - على ما قاله
أبو حنيفة - بأنها تؤخذ من جميع
أهل الكتاب ، ومن عبدة الأوثان إذا كانوا عجما ، ولا تؤخذ منهم إذا كانوا عربا .
والثالث : - ما قاله
مالك - إنها تؤخذ من كل كافر من كتابي ، ووثني ، وعجمي ، وعربي ، إلا من كفار
قريش ، فلا تؤخذ منهم ، وإن دانوا دين
أهل الكتاب .
والمذهب الرابع : - ما قاله
أبو يوسف - إنها تؤخذ من
العجم سواء كانوا أهل كتاب أو عبدة أوثان ، ولا تؤخذ من العرب سواء كانوا من
أهل الكتاب أو من عبدة الأوثان ، فجعلها معتبرة بالأنساب دون الأديان ، فصار الخلاف مع
الشافعي في حكمين :
أحدهما : في عبدة الأوثان ، فعند
الشافعي لا تقبل جزيتهم ، وعند غيره تقبل .
والثاني : في العرب ، فعند
الشافعي تقبل جزيتهم ، وعند غيره لا تقبل .
فأما الحكم الأول في عبدة الأوثان ، فاستدل من ذهب إلى قبول جزيتهم بحديث
سليمان بن بريدة ،
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعثه على جيش قال له : ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ولم يفرق بين عبدة الأوثان وأهل الكتاب ، وإن كان أكثرهم عبدة أوثان ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ
الجزية من المجوس وليس لهم
[ ص: 285 ] كتاب ، فكذلك عبدة الأوثان ، ولأنه استذلال يجوز في
أهل الكتاب ، فجاز في عبدة الأوثان كالقتل .
ودليلنا قوله تعالى :
من الذين أوتوا الكتاب ، [ التوبة : 29 ] . فجعل الكتاب شرطا في قبولها منهم ، فلم يجز لعدم الشرط أن تقبل من غيرهم .
وروى
عبد الرحمن بن عوف nindex.php?page=hadith&LINKID=925116أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المجوس : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، فدل على اختصاص الجزية بهم .
وروى
عمرو بن شعيب - عن أبيه - عن جده -
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب ، فخصهم بالذكر لاختصاصهم بالحكم ولأنه وثني فلم يقر على حكمه بالجزية كالعربي ، ولأن من لم يقر بالجزية من العرب لم يقر بها من العجم كالمرتد ، ولأن
لأهل الكتاب حرمتين .
إحداهما : حرمة الكتاب الذي نزل عليهم .
والثانية : حرمة دين الحق الذي كانوا عليه .
وهاتان الحرمتان معدومتان في عبدة الأوثان ، فافترقا في حكم الإقرار بالجزية .
فأما الجواب عن حديث
ابن بريدة ، فمن وجهين :
أحدهما : تخصيص عمومه بأدلتنا .
والثاني : أنه لا يصح التعلق بظاهره حتى يقرن به إضمار ، فهم يضمرون أخذ الجزية منهم إذا كانوا عجما ، ونحن نضمر أخذ الجزية منهم إذا كانوا أهل كتاب ، ولو تكافأ الإضماران سقط الدليل ، واختيارنا أولى لثبوت حكمه عن إجماع .
وأما الجواب عن أخذها من
المجوس ، فهو ما سنذكره من بعد في أن لهم كتابا .
وأما قياسهم على القتل ، فغير صحيح لأمرين :
أحدهما : أن القتل لا يبقى معه إقرار على الكفر ، وفي الجزية إقرار على الكفر فافترقا .
والثاني : أن القتل أغلظ من الجزية ، فلم يجز أن يلحق به ما هو أخف منه إذا كان محمولا على التغليظ .