فصل : وأما
الحجاز فلا يجوز أن يستوطنه مشرك ، من كتابي ولا وثني ، وجوزه
أبو حنيفة كسائر الأمصار احتجاجا بإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم إلى أن قبضه الله تعالى إليه ، ولأن كل أرض حل صيدها حل لهم استيطانها كغير
الحجاز .
ودليلنا : ما رواه
عبد الله بن عتبة بن مسعود ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=925132عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كانت آخر ما عهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال : لا يجتمع في جزيرة العرب دينان وهذا نص .
ولما قبضه الله تعالى قبل عمله به لم يسقط حكم قوله ، وتشاغل
أبو بكر في أيامه مع قصرها بأهل الردة ، ومانعي الزكاة ، وتطاولت الأيام
بعمر - رضي الله عنه - وتكاملت له
جزيرة العرب ، وفتح ما جاورها ، نفذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، فاجتمع رأيه ، ورأي الصحابة - رضي الله عنهم - على إجلائهم وكان فيهم تجار وأطباء ، وصناع ، يحتاج المسلمون إليهم : فضرب لمن قدم منهم تاجرا ، وصانعا مقام ثلاثة أيام ينادى فيهم ، بعدها اخرجوا ، وهنا إجماع بعد نص لا يجوز خلافهما ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=925133ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود خيبر حين ساقاهم على نخلها : أقركم ما أقركم الله فدل على أن مقامهم غير مستدام ، وأن لحظره فيهم حكما مستجدا .
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925134لئن عشت إلى قابل لأنفين اليهود من جزيرة العرب ، فمات قبل نفيهم ، ولأن
الحجاز لما اختص بحرم الله تعالى ، ومبعث رسالته ومستقر دينه ، ومهاجرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - صار أشرف من غيره ، فكانت حرمته أغلظ ، فجاز أن يصان عن أهل الشرك
كالحرم .
[ ص: 337 ] فإذا ثبت حظر
استيطان أهل الذمة للحجاز ، فيجوز أن يدخلوه دخول المسافرين لا يقيموا من موضع منه أكثر من ثلاثة أيام : لأن
عمر حين أجلاهم ضرب لمن قدم منهم تاجرا أو صانعا مقام ثلاثة أيام ، فكان هذا القدر مستثنى من الحظر ، استدل به على أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923448لا يجتمع دينان في جزيرة العرب محمولة على الاستيطان دون الاجتياز : ولأن الله تعالى يقول :
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه [ التوبة : 6 ] ويكفيه أن يهتدي بسماع كلام الله تعالى في مدة ثلاث : ولأنه لما انخفضت حرمة
الحجاز عن
الحرم ، وفضلت على غيره أبيح لهم من مقام ما لم يستبيحوه في
الحرم ، وحرم عليهم من استيطان
الحجاز ما استباحوه في غيره ، فإذا كان كذلك اختصت الإباحة بمقام المسافر ، وهو ثلاثة أيام لا يتجاوزونها ، ويمنعون من دخول
الحجاز ، وإن كانوا أهل ذمة إلا بإذن الإمام : لأن مقصوده التصرف دون الأمان .
فلو أذن لهم واحد من المسلمين لم يجز أن يدخلوا بإذنه ، وإن كان لو أذن لحربي جاز أن يدخل دار الإسلام بإذنه .
والفرق بينهما : أن المقصود بإذنه للحربي أمانه ، وأمان الواحد من المسلمين يجوز ، والمقصود بإذنه للذمي في دخول
الحجاز التصرف المقصور على إذن الإمام ، فلو دخل ذمي
الحجاز بغير إذن عزر وأخرج ولا يغنم ماله : لأن له بالذمة أمانا ولو دخل حربي بلاد الإسلام بغير إذن غنم ماله : لأنه لا أمان له ، ويجوز إذا أقاموا ببلد من
الحجاز ثلاثا أن ينتقلوا إلى غيره ، فيقيموا فيه ثلاثا ، ثم كذلك في بلد بعد بلد ، فإن لم يقض حاجته في الثلاث ، واحتاج إلى زيادة مقام : لاقتضاء الديون منح ، وقيل له : وكل من يقبضها لك ، ولو مرض ، ولم يقدر على النهوض مكن من المقام : لأنها حال ضرورة حتى يبرأ ، فيخرج بخلاف الدين الذي يقدر على قبضه ، فإن مات في
الحجاز لم يدفن فيه : لأن الدفن مقام تأبيد إلا أن يتعذر إخراجه ، ويتغير إن استبقى من غير دفن فيدفن في
الحجاز للضرورة كما يقيم فيه مريضا .
فأما
الحجاز ، فهو بعض
جزيرة العرب ، ولأن كل قول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوجه إلى
جزيرة العرب مختلف فيه ، فهي في قول
الأصمعي من أقصى
عدن إلى أقصى ريف
العراق في الطول ، ومن
جدة وما والاها إلى أطراف
الشام في العرض .
وقال
أبو عبيدة :
جزيرة العرب في الطول ما بين
حفر أبي موسى إلى أقصى
اليمن ، وفي العرض ما بين
رمل إلى
يبرين إلى
منقطع السماوة ، وفي
جزيرة العرب أرض
نجد وتهامة ، وحد
نجد وتهامة مختلف فيه ، فقال
الأصمعي : إذا خلفت عجاز مصعدا ، فقد أنجدت ، فلا تزال منجدا حتى تنحدر في ثنايا
ذات عرق ، فإذا فعلت فقد أتهمت ، ولا تزال متهما في ثنايا العرج حتى يستقبلك الأراك والمدارج .
[ ص: 338 ] وقال غيره :
جبل السراة في
جزيرة العرب وهو أعظم جبالها يقبل من ثغرة
اليمن حتى ينتهي إلى وادي
الشام فما دون هذا الجبل في غرسية من
أسياف البحر إلى
ذات عرق ،
والجحفة هو
تهامة ، وما دون هذا الجبل في شرقي ما بين أطراف
العراق إلى
السماوة ، فهو
نجد .
وأما
الحجاز فهو حاجز بين
تهامة ونجد ، وهو منهما ، وحده مختلف فيه ، فقال قوم : هو ما احتجز بالجبل في شرقيه وغربيه عن
بلاد مذحج إلى
فيد .
وقال آخرون : هو اثنتا عشرة دارا للعرب .
فالحد الأول : بطن
مكة ، وأعلا
رمة وظهره ،
وحرة ليلى .
والحد الثاني : يلي
الشام شفي وبدا ، وهما جبلان .
والحد الثالث : يلي
تهامة بدر ،
والسقيا ،
ورهاط ،
وعكاظ .
والحد الرابع :
ساكة وودان .
واختلف في تسميته
بالحجاز ، فقال
الأصمعي : لأنه حجز بين
نجد وتهامة .
وقال
ابن الكلبي : سمي حجازا لما أحجز من الجبال ، وأما غير
الحجاز فضل من بلاد الإسلام ، فمن
دخلها من المشركين بغير ذمة ولا عهد فهو حرب كالأسرى يغنم ويسبى ، ويكون الإمام فيه مخيرا كتخييره في الأسير بين الأحكام الأربعة من القتل أو الأسر أو المن أو الفداء ، ويجوز أن يعفو من سبي ذريته بخلاف السبايا في الحرب : لأن الغانمين قد ملكوهم : فلا يصح العفو عنهم إلا بإذنهم ، وذرية هذا الداخل بغير عهد لم يملكهم أحد ، فجاز فوق الإمام .
فأما من دخل دار الإسلام بأمان ، فضربان : أهل ذمة ، وأهل عهد .
فأما أهل الذمة ، فهو المستوطن ، ولا يجوز استيطانهم إلا بجزية إذا كانوا أهل كتاب ، أو شبهة كتاب .
وأما أهل العهد ، فهو الداخل إلى بلاد الإسلام بغير استيطان ، فيكون مقامهم مقصورا على مدة لا يتجاوزونها ، وهي أربعة أشهر لقول الله تعالى
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ التوبة : 2 ]
فأما مدة سنة ، فلا يجوز أن يقيموها إلا بجزية ، وفي جواز إقامتهم بغير جزية فيما بين أربعة أشهر وبين سنة قولان :
أحدهما : يجوز لأنها دون السنة كالأربعة .
[ ص: 339 ] والقول الثاني : لا يجوز : لأنه فوق الأربعة كالسنة ، وسواء كانوا من أهل الكتاب أو لم يكونوا .