فصل : فأما حكم الشرط في هدنة من بعده من أئمة الأعصار ، فلا يجوز أن
يهادنوا على رد من أسلم من نسائهم بحال ، ولئن فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قدمناه من الاختلاف في هدنته ، فقد كان قبل استقرار الشرط في حظر الرد ، وقد استقر منه ما لا يجوز خلافه .
فأما
اشتراط رد من أسلم من الرجال ، فمعتبر بأحوالهم عند قومهم ، وفي عشائرهم إذا رجعوا إليهم ، فإن كانوا مستذلين فيهم ، ليس لهم عشيرة تكف الأذى عنهم ، وطلبوهم ليعذبوهم ، ويفتنوهم عن دينهم ، كما كانت
قريش تعذب
بلالا .
وعمارا وغيرهما من المستضعفين
بمكة ، لم يجز ردهم عليهم ، وكان الشرط في ردهم باطلا ، كما بطل في رد النساء حقنا لدمائهم ، وكفا عن تعذيبهم واستذلالهم ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
إن الله حرم من المسلم ماله ودمه ، وأن لا يظن به إلا خيرا ، ولأنه لما وجب على الإمام فك الأسير المسلم وجب أن لا يكون عونا على أسر مسلم .
فأما من كان في عز من قومه ، ومنعة من عشيرته قد أمن أن يفتن عن دينه أو يستذله مستطيل عليه ، جاز رده عليه ، وصحت الهدنة باشتراط رده .
قد رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدنة
الحديبية أبا جندل بن سهيل بن عمرو على أبيه ، ورد
عياش بن أبي ربيعة على أهله ، ورد
أبا بصير على أبيه : ولأنهم كانوا ذوي عشيرة ، وطلبهم أهلوهم إشفاقا عليهم ، وفادى العقيلي بعد إسلامه برجلين من المسلمين كانا أسيرين في قومه ، لقوة عشيرته فيهم .
وقد
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد مراسلة قريش بالحديبية ، فعرض على أبي بكر أن يتوجه إليهم ، فقال إني قليل العشيرة بمكة ، ولا آمنهم على نفسي ، فعرض على عمر ، فقال مثل ( ذلك ) فقال لعثمان : أنت كثير العشيرة بمكة ، فوجهه إليهم ، فلما توجه فلقوه بالإكرام وقالوا له : طف بالبيت وتحلل من إحرامك ، فقال : لا أطوف بالبيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - محصور عن الطواف ، فانقلبوا عليه ، حتى بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل ، [ ص: 361 ] فبايع أصحابه من أجله بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فدل هذا على الفرق بين ذي العشيرة المانعة وبين غيره في الرد .
ومثله ما قلناه : في وجوب
الهجرة على من أسلم في دار الحرب إن كان ممتنعا بعشيرته إذا أظهر إسلامه لم تجب عليه الهجرة ، وإن كان مستضعفا وجبت عليه الهجرة ، فصار الرد مقصورا على طائفة واحدة ، وهي الممتنعة بيوتها لقوتها ومنع الرد مشتملا على طائفتين :
أحدهما : جميع النساء من الممتنعات ، والمستضعفات .
والثاني : المستضعفون من الرجال ، وكذلك الصبيان إذا وصفوا الإسلام عند المراهقة ممنوعون من الرد ، وإن كانوا ممتنعين لأنهم قد يفتنون عن دينهم . نص عليه
الشافعي ، فجعل
أبو علي بن أبي هريرة هذا دليلا على صحة إسلامه قبل بلوغه ، وذهب جميع أصحاب
الشافعي ، وهو ظاهر مذهبه ، ومنصوصه في سائر كتبه أن إسلامه لا يصح قبل بلوغه ، وإنما منع من رده استظهارا لدينه حتى يتحقق ما هو عليه بعد بلوغه .
فإن وصف الإسلام رد إن كان ممتنعا ، ولم يرد إن كان مستضعفا ، وإن وصف الكفر حمل على هدنة قومه .
فلو
شرط في الهدنة رد من أسلم مطلقا من غير تفصيل بطلت : لأن إطلاقه يقتضي عموم الرد ممن يجوز أن يرد ، وممن لا يجوز أن يخص عمومه بالعرف فيمن يجوز رده .