[ ص: 373 ] باب تبديل أهل الذمة دينهم
مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " أصل ما أبني عليه أن
الجزية لا تقبل من أحد دان دين كتابي إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان " .
قال
الماوردي : قد مضت هذه المسألة في مواضع شتى ، وذكرنا أن من خالف دين الإسلام من الكفار ينقسمون ثلاثة أقسام :
قسم هم أهل كتاب
كاليهود والنصارى ، فتقبل جزيتهم ، وتحل مناكحتهم وذبائحهم .
وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان فلا تقبل جزيتهم ولا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم .
وقسم لهم شبهة كتاب ، فهؤلاء تقبل جزيتهم ، ولا تحل مناكحتهم ، ولا تؤكل ذبائحهم تغليبا لحكم التحريم .
وإذا كان كذلك صار كمال الحرمة فيهم لأهل الكتاب من
اليهود والنصارى وهؤلاء ضربان :
أحدهما :
بنو إسرائيل ،
وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فبعث الله تعالى نبيه
موسى في
بني إسرائيل بالتوراة فآمن به جميعهم ، ودعا غيرهم ، فآمن بعضهم ، ودخل بعده في دينه قوم ، ثم بدلوا دينهم حتى عدلوا عن الحق فيه ، وسمي من دخل في دينه
اليهود ، فبعث الله تعالى بعده
عيسى ابن مريم بالإنجيل إلى
بني إسرائيل وغيرهم ، فآمن به بعض
بني إسرائيل من
اليهود ، وآمن به طوائف من غيرهم ، ثم بدلوا دينهم حتى عدلوا عن الحق فيه ، وسمي من دخل في دينه
النصارى ، فبعث الله تعالى بعده
محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن ، وجعله خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع الأنبياء والمرسلين - فدعا جميع الخلق بعد ابتدائه
بقريش : لأنهم قومه ، ثم بالعرب ، ثم بمن عداهم ، فآمن به من هداه الله تعالى من كافة الخلق ، فصارت شريعة الإسلام ناسخة لكل شريعة تقدمتها ، فلم يختلف مذهب
الشافعي بعد نسخ جميع الشرائع المتقدمة بالإسلام أن
[ ص: 374 ] النصرانية منسوخة بشريعة الإسلام ، واختلف أصحابه في اليهودية بماذا نسخت ، على وجهين :
أحدهما : وهو الأشهر نسخت بالنصرانية ، حيث بعث الله
عيسى بالإنجيل .
والوجه الثاني : أنها منسوخة بالإسلام حيث بعث الله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن .
فإذا تقررت هذه الجملة ، فكل من كان من
اليهود والنصارى من
بني إسرائيل فهم مقرون على دينهم تقبل جزيتهم ، وتحل مناكحتهم ، وتؤكل ذبائحهم : لعلمنا بدخولهم في هذين الدينين قبل تبديلهم ، فثبتت لهما حرمة الحق ، فلما خرج أبناؤهم عن الحق بالتنزيل حفظ الله فيهم حرمة إسلامهم ، فأقرهم على دينهم مع تبديلهم ، كما قال تعالى في قصة الجدار :
وكان أبوهما صالحا [ الكهف : 82 ] الآية ، فحفظ الله تعالى بينهما صلاح أبيهما ، وقيل : إنه كان الأب السابع حتى أوصلهما إلى كنزهما .
وأما
غير بني إسرائيل من اليهود والنصارى ، فينقسمون أربعة أقسام :
أحدها : أن يكونوا قد دخلوا في اليهودية والنصرانية قبل تبديلهم فيكونوا
كبني إسرائيل في إقرارهم بالجزية واستباحة مناكحتهم وذبائحهم : لدخول سلفهم في دين الحق .
القسم الثاني : أن يكونوا قد دخلوا فيها بعد التبديل مع غير المبدلين ، فهم كالداخل قبل التبديل في قبول جزيتهم ، وإباحة مناكحتهم وذبائحهم : لأنهم دخلوا فيه مع أهل الحق .
والقسم الثالث : أن يكونوا قد دخلوا فيه بعد التبديل مع المبدلين فيكونوا عن حكم عبدة الأوثان : لأنهم لم يدخلوا في حق : لأن التبديل باطل ، فلا تقبل جزيتهم ، ولا تستباح مناكحتهم ، ولا ذبائحهم ، ويقال لهم ما يقال لعبدة الأوثان : إما الإسلام أو السيف .
والقسم الرابع : أن يقع الشك فيهم : دخلوا قبل التبديل أو بعده ، وهل دخلوا مع المبدلين أو مع غير المبدلين ، فهؤلاء يغلب منهم حكم التحريم في الأحكام الثلاثة ، فتحقن دماؤهم بالجزية تغليبا لتحريمها ، ولا تستباح مناكحتهم ، ولا ذبائحهم تغليبا لتحريمها كما فعل
عمر - رضي الله عنه - في نصارى العرب ، حين أشكل عليه أمرهم هل دخلوا في النصرانية ، قبل التبديل أو بعده ، فأمرهم بالجزية حقنا لدمائهم ، وحرم نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم ، وجعلهم في ذلك
كالمجوس .