مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - :
" فلا تقبل ممن بدل يهودية بنصرانية ، أو نصرانية بمجوسية ، أو مجوسية بنصرانية ، أو بغير الإسلام وإنما أذن الله بأخذ الجزية منهم على ما دانوا قبل
محمد - عليه الصلاة والسلام - وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده
[ ص: 375 ] فإن أقام على ما كان عليه وإلا نبذ إليه عهده ، وأخرج من بلاد الإسلام بماله : وصار حربا ، ومن بدل دينه من كتابية لم يحل نكاحها ( قال
المزني ) - رحمه الله - : قد قال في كتاب النكاح ، وقال في كتاب الصيد : والذبائح إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهي حلال ، وهذا عندي أشبه ، وقال
ابن عباس : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ( قال
المزني : ) فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواء عندي في القياس ، وبالله التوفيق .
قال
الماوردي : وصورتها أن ينتقل أهل الذمة في الإسلام من دين إلى دين ، فذلك ضربان :
أحدهما : أن ينتقلوا إلى دين يقر عليه أهله .
والثاني : إلى دين لا يقر عليه أهله .
فأما الضرب الأول ، وهو أن
ينتقلوا إلى دين يقر عليه أهله كمن بدل يهودية بنصرانية ، أو بمجوسية ، أو بدل نصرانية بيهودية ، أو مجوسية ، أو بدل مجوسية بيهودية ، أو نصرانية ، ففي إقراره على ذلك قولان :
أحدهما : إنه يقر عليه ، وهو قول
أبي حنيفة والمزني : لأن الكفر كله ملة واحدة يتوارثون بها مع اختلاف معتقدهم ، فصاروا في انتقاله فيه من دين إلى دين ، كانتقال المسلمين من مذهب إلى مذهب .
والقول الثاني : وهو أظهر أنه لا يقر عليه : لقول الله تعالى :
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ آل عمران : 185 ] ، ولأنه لما كان الوثني إذا انتقل إلى نصرانية لم يقر ، والنصراني إذا انتقل إلى وثنية لم يقر ، وجب إذا انتقل النصراني إلى يهودية أن لا يقر : لأن جميعهم منتقل إلى دين ليس بحق .
فإذا تقرر القولان ، فإن قيل بالأول أنه مقر في انتقاله لم يخل حاله فيما انتقل إليه من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون مكافئا لدينه كيهودي تنصر أو نصراني تهود ، فأصل هذين الدينين سواء في جميع الأحكام ، ولا يختلف حكمهما بانتقاله من أحد الدينين إلى الآخر إلا في قدر الجزية ، فتصير جزيته جزية الدين الذي انتقل إليه دون جزية الدين الذي انتقل عنه سواء كانت أقل أو أكثر .
والقسم الثاني : أن
يكون الدين الذي انتقل إليه أخف حكما من الدين الذي كان عليه ، كنصراني تمجس ، فينتقل عن أحكامه في الجزية والمناكحة والذبيحة والدية إلى أحكام الدين الذي انتقل إليه ، فتقبل جزيته ، ولا تحل مناكحته ، ولا تؤكل ذبيحته ، وتكون ديته ثلثي عشر دية المسلم بعد أن كانت نصفها كالمجوس في أحكامه كلها ،
[ ص: 376 ] فيصير بذلك منتقلا من أخف الأحكام إلى أغلظها .
والقسم الثالث : أن
يكون الدين الذي انتقل إليه أعلى حكما من الدين الذي كان عليه كمجوسي تنصر ، ففيه وجهان :
أحدهما : أنه يجري عليه حكم الدين الذي انتقل إليه لإقراره عليه في إباحة المناكحة والذبيحة ، وقدر الدية ، فيصير منتقلا من أغلظ الأحكام إلى أخفها .
والوجه الثاني : أنه يجري عليه أحكام الدين الذي كان عليه في تحريم مناكحته وذبيحته وقدر ديته تغليبا لأحكام التغليظ لما تقدم من حرماتها عليه ، كالمشكوك في دينه من نصارى العرب .
وإن قيل بالقول الثاني : أنه لا يقر على الدين الذي انتقل إليه وجب أن يؤخذ جبرا بالانتقال عنه إلى دين يؤمر به : وفي الدين الذي يؤمر بالانتقال إليه قولان :
أحدهما : دين الإسلام أو غيره : لأنه انتقل إلى دين قد كان مقرا ببطلانه ، وانتقل عن دين هو الآن مقر ببطلانه ، فلم يجز أن يقر على واحد من الدينين ، لإقراره ببطلانهما ، فوجب أن يؤخذ بالرجوع إلى دين الحق ، وهو الإسلام .
والقول الثاني : أنه إن انتقل إلى دين الإسلام أو إلى دينه الذي كان عليه أقر عليه ، فنزل لأننا كنا قد صالحناه على الأول على دينه ، وإن كان عندنا باطلا فجاز أن يعاد إليه ، وإن كان عنده باطلا ، فعلى هذا اختلف أصحابنا في صفة دعائه إلى دينه الذي كان عليه على وجهين :
أحدهما : ويشبه أن يكون قول
أبي إسحاق المروزي أننا ندعوه إلى العود إلى الإسلام ، ولا يجوز أن يدعى إلى العود إلى الكفر ، فإن عاد إلى دينه في الكفر أقر عليه : لأن الدعاء إلى الكفر معصية ، ويجوز إذا لم يعلم أنه يقر على دينه الذي كان عليه أن يقال له : نحن ندعوك إلى الإسلام ، فإن عدت إلى دينك الذي كنت عليه أقررناك .
والوجه الثاني : وهو قول
أبي علي بن أبي هريرة : أننا ندعوه ابتداء إلى الإسلام وإلى دينه الذي كان عليه ، ولا يكون ذلك أمرا بالعود إلى الكفر : لأنه إخبار عن حكم الله تعالى ، فلم يكن أمرا بالكفر ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى الشهادة أو الجزية ، فلم يكن ذلك منه أمرا بالمقام على الكفر ، ولكنه إخبار عن حكم الله فيهم ، فإذا توجه القولان فيما يؤمر بالعود إليه ، فإن عاد إلى الدين المأمور به أقر عليه ، وإن لم يعد إليه ففيما يلزم من حكمه قولان :
أحدهما : وهو الذي نقله
المزني هاهنا أنه ينبذ إليه عهده ، ويبلغ مأمنه ، ثم يكون حربا لأن له أمانا على الكفر ، فلزم الوفاء به ، فعلى هذا يجوز تركه : ليقضي
[ ص: 377 ] أشغاله ونقل ماله ، ولا يتجاوز به أكثر من أربعة أشهر ، فإذا بلغ أدنى مأمنه بذريته وماله صار حربا .
والقول الثاني : أنه يصير في حكم المرتد : لأن ذمته ليست بأوكد من ذمة الإسلام ، فعلى هذا يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل صبرا بالسيف ، وفي الانتظار بقتله ثلاثا ، قولان : ويكون أمان ذريته باقيا ، وأما ماله ، فيكون فيئا لبيت المال ، ولا يورث عنه : لأن من قتل بحكم الردة لم يورث .