الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت ما وصفنا ، وجعلنا ذلك نقضا لعهد جميعهم ، جاز أن يبدأ الإمام بقتالهم بإنذار وغير إنذار ، كما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ناقض عهده فجاءة بغير إنذار ، وجاز أن يهجم عليهم غرة وبياتا ، فيقتل رجالهم ، ويسبي ذراريهم ، ويغنم أموالهم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببني قريظة .

وإن جعلناه نقضا لعهد من باشر ، ولم نجعله نقضا لعهد من لم يباشر لم يخل حالهم أن يكونوا متميزين عنهم أو مختلطين بهم ، فإن تميزوا عنهم في موضع انحازوا عنه : أجرى على كل واحد من الفريقين حكمه : فقوتل الناقضون للعهد ، وقتلوا ، وكف عن غير الناقضين وأمنوا ، وإن اختلطوا بهم في مواضعهم غير متميزين عنهم ، لم يجز أن نقاتلهم إلا بعد إنذارهم ، ولا يجوز أن يشن عليهم الغارة ، ولا يهجم عليهم غرة وبياتا ، ويقول لهم : يتميز منكم ناقض العهد ممن لم ينقضه ، فإن تميزوا عمل بما تقدم ، وإن لم يتميزوا نظر : فإن كان المقيمون على العهد أكثر أو أظهر لم ينذروا بالقتال ، وقيل لهم : ميزوا عنكم ناقضي العهد منكم ، إما بتسليمهم إلينا ، وإما بإبعادهم عنكم .

فإذا فعلوه ، فقد تميزوا به ، وخرجوا من نقض العهد ، وإن لم يفعلوا واحدا منهما ، وأقاموا على اختلاطهم بهم بعد المراسلة بالتميز عنهم : صاروا مماثلين لهم ، فصار ذلك حينئذ نقضا منهم للعهد ، فجرى على جميعهم حكم النقض : لأن موجب العهد أن لا يمايلوا علينا عدوا لقول الله تعالى : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ، [ التوبة : 4 ] . الآية وقد ظاهروهم بالممايلة ، فانتقض عهدهم ، وإن كان الناقضون للعهد أكثر وأظهر لم يجز أن يشن عليهم الغارة ، ولا يقتلوا في غرة وبيات وحوربوا جهرا ، ولم يجب الكف عن قتالهم : لأجل من بينهم من أهل العهد ، لأنهم كالأسراء فيهم ، فإن أسروا لم يجز قتل الأسرى إلا بعد الكشف عنهم : هل هم ممن نقض العهد أو أقام عليه ، فإن لم يوصل إليه إلا منهم جاز أن يقبل قولهم في أنفسهم ، وكذلك في ذراريهم إن سبوا ، وأموالهم إن غنمت ، ولا تقبل شهادة بعضهم لبعض ، فإن ادعوا من الذراري والأموال ما أنكره الغانمون نظر : فإن كان في أيديهم ، فالقول فيه قولهم مع أيمانهم ، وإن كان في أيدي الغانمين لم يقبل قولهم فيه إلا ببينة تشهد لهم من المسلمين ، ولا يحلف الغانمون عليه : لأنهم لا يتعينون في استحقاقه ، وكان مغنوما مع عدم البينة .

التالي السابق


الخدمات العلمية