فصل : وأما
الممتنع بعدوه أو طيرانه ، فيملك بأحد ثلاثة أشياء :
أحدها :
بالأخذ والتناول بأن يظفر به في بيته ، أو يعقله على مائه أو حضانة ولده وبيضه ، فيصير بحصوله في يده ملكا له ، وإن كان باقيا على امتناعه لو أرسل .
والثاني : أن
يقع في شبكته أو شركه ، فلا يقدر على الخلاص ، فيصير بحصوله فيها ملكا لواضع الشبكة والشرك سواء كان حاضرا أو غائبا ، وسواء عقرته الشبكة أو لم تعقره ، إذا لم يقدر على الخلاص منها ، فإن قدر على الخلاص لم يستقر ملكه عليه في حال قدرته على الخلاص إلا بأحد أمرين :
إما أن يأخذه بيده ويصير بوقوعه فيها أحق به من غيره ، وإن أخذه غيره صار الأخذ له أملك به ، كالعبد إذا دخل دار رجل كان مالك الدار أحق بأخذه ، فإن أخذه غيره صار الآخذ له أملك به من صاحب الدار ، فإن أفضت الشبكة باضطراب الصيد فيها إلى عجزه عن الخلاص منها ، فقد ملكه حينئذ صاحب الشبكة ، وإن أخذه في هذه الحال غيره ، كان صاحب الشبكة أحق به ، ولو تقطعت الشبكة فأفلت الصيد منها . نظر في قطع الشبكة ، فإن قطعها الصيد الواقع فيها عدا بعد انفلاته إلى حال الإباحة وملكه من صاده : لأنه بان أن الشبكة لم تثبته ، ولو قطعها غيره من صيود أخر اجتمعت على قطعها كان باقيا على ملك صاحبها ، لا يزول عنه بانفلاته منها : لأنها قد أثبتته ، فلا يملكه غيره إذا صاده ، ويسترجعه منه كالعبد الآبق والبعير الشارد ، فإن كانت الشبكة فارغة ، فاضطر الصيد غير واضع الشبكة إليه ، فوقع فيها بطرده إليها ، كان ملكا لواضع الشبكة دون طارده : لأن إثباته بالشبكة دون الطرد فلو وضع الشبكة غير مالكها كان الصيد ملكا لواضعها دون مالكها ، سواء كان مستعيرا أو غاصبا ، وعليه إن غصب أجرة مثلها ، فلو حضر مالك الشبكة ، بعد وضعها ، فإن كان معيرا كان واضعها أحق بالصيد منه ، وإن كان مغصوبا كان ما وقع فيه قبل حضوره ملكا للغاصب ، وما وقع بعد حضوره ملكا للمغصوب إن رفع يد الغاصب ، وملكا للغاصب إن لم يرفع يده عنها : لأن الغاصب يبرأ من ضمانها إذا رفعت يده ، فصار وضعها قبل وضع يده منسوبا إلى الغاصب وبعد رفع يده منسوبا إلى المغصوب .
والثالث : الذي يملك به الصيد أن يثبته بعد الامتناع فلا يقدر على عدو ولا طيران وهذا
الإثبات معتبر بشرطين :
[ ص: 41 ] أحدهما : أن يكون بفعل منه وصل إلى الصيد بالآلة المؤثرة في إثباته من ضرب أو جرح ، وإن سعى خلف الصيد فوقف بإعيائه ، لم يملكه بالوقوف : حتى يأخذه : لأن وقوفه استراحة منه هو بعدها على امتناعه ، وكذلك لو توحل الصيد عند طلبه في طين لم يقدر على الخلاص منه لم يملكه حتى يأخذه : لأن الطين ليس من فعله ، فلو كان هذا الذي أرسل الماء في الأرض حتى توحلت ملكه بوقوعه في الوحل : لأن الوحل من فعله ، فصار به كوضع الشبكة ولو اعترضه منه سبع فعقره فأثبته لم يملكه : لأن اعتراض السبع ليس من فعله ، فلو كان هذا الذي أغرى السبع باعتراضه حتى عقره فأثبته نظر ، فإن كانت له على السبع يد ملك الصيد بعقره ، وصار كإرسال كلبه ، وإن لم يكن له على السبع يد لم يملك الصيد بعقره حتى يأخذه لأن اختيار السبع أقوى من إغرائه .
والشرط الثاني : أن يصير الصيد بما وصل من فعله عاجزا عما كان عليه من امتناعه ، سواء كان ما وصل إليه قد عقره كالحديد أو لم يعقره كالحجر ، وإذا كان كذلك لم يخل حاله بعد وصول الآلة إليه من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يعقر بها في موضع فلا يقدر على عدو ولا طيران ، فهذا إثبات قد صار به مالكا لصيد ، فإن عادت قوة الصيد فامتنع بها بعد إثباته نظر : فإن كانت بعد أخذه وهو باق على ملكه ، وإن كانت قبل أخذه فعلى ضربين :
أحدهما : أن يكون زمان عودها قريبا لا تنشأ في مثله قوة مستفادة فقد عاد إلى الإباحة ، ولم يستقر ملكه عليه ، وعلم أن وقوفه لاستراحة .
والضرب الثاني : أن يطول زمانه حتى تنشأ في مثله قوة مستفادة ، فيكون باقيا على ملكه ، ولا يعود إلى الإباحة كما لو قص جناح طائر قد صاده ، فثبت جناحه ، وطار لم يزل عن ملكه .
والحال الثانية : أن يفوت الصيد بعد وصول الآلة إليه على امتناع في عدوه وطيرانه ، فلا يصير مالكا له بجراحته ، وسواء كانت الجراحة مما يسلم من مثلها أو لا يسلم ، وسواء طال زمان امتناعه أو قصر زمان رماه آخر ، فأثبته ، كان ملكا للثاني دون الأول ، وهي مسألة الكتاب : لأن إثباته من فعل الثاني دون الأول ، ولو لم يرمه آخر حتى ثبت بجراحة الأول صار حينئذ ملكا للأول : لأنه قد صار مثبتا له ، فإن ثبت بالعطش بعد الجراحة نظر ، فإن كان عطشه لعدم الماء لم يملكه الجارح ، وإن كان عطشه لعجزه عن وصوله إلى الماء ملكه الجارح : لأن الجراح مؤثرة في العجز دون الماء .
والحالة الثالثة : أن يقصر عن امتناعه من غير وقوف بمكانه ، فيعدو دون عدوه ، ويطير دون طيرانه ، فهذا على ضربين :
[ ص: 42 ] أحدهما : أن يكون بما بقي فيه من العدو والطيران يمتنع به عن أن تناله الأيدي ، فلا يملكه الجارح ، ويكون باقيا على حكم امتناعه : لأنه لو لم يكن فيه من القوة إلا هذا القدر لكان بها ممتنعا .
والضرب الثاني : أن لا يمتنع بما بقي له من العدو والطيران عن الأيدي ، وتناله يد من أراده ، فيصير بهذه الحالة مثبتا يملكه جارح ويكون أحق به من آخذه : لأنه قد صار بها غير ممتنع ، فلو رمى صيدا فأصابه ثم مرق السهم منه ، فأصاب صيدا ثانيا ، ومرق من الثاني ، فأصاب ثالثا ملك منها ما أثبته دون ما لم يثبته ، سواء كان أولا أو آخرا ، فإن أثبت جميعها ملكها ، وإن لم يثبت شيئا منها لم يملكها ، والله أعلم .