مسألة : قال
الشافعي :
ولا يأكل المضطر من الميتة إلا ما يرد نفسه فيخرج به من الاضطرار قال في كتاب اختلاف
أبي حنيفة وأهل المدينة بهذا أقول وقال فيه وما هو بالبين من قبل أن الشيء حلال وحرام ، فإذا كان حراما لم يحل منه شيء ، وإذا كان حلالا فقد يحتمل أن لا يحرم منه شيئا ، فهو محرم إلا ما أباح منه بصفة ، فإذا زالت الصفة زالت الإباحة قال
المزني : ولا خلاف أعلمه أن ليس له أن يأكل من الميتة وهو بادي الشبع : لأنه ليس بمضطر ، فإذا كان خائفا على نفسه فمضطر ، فإذا أكل منها ما يذهب الخوف ، فقد أمن فارتفع الاضطرار الذي هو علة الإباحة قال
المزني - رحمه الله - : وإذا ارتفعت العلة ارتفع حكمها ، ورجع الحكم كما كان قبل الاضطرار ، وهو تحريم الله عز وجل الميتة على من ليس بمضطر ، ولو جاز أن يرتفع الاضطرار ولا يرتفع حكمه جاز أن يحدث الإضرار ولا يحدث حكمه ، وهذا خلاف القرآن .
قال
الماوردي : والأصل في إباحة الميتة للمضطر قول الله تعالى :
إنما حرم عليكم الميتة فأخبر بتحريمها بعد قوله :
كلوا من طيبات ما رزقناكم [ البقرة : 172 ] ليدل على تخصيص التحريم في عموم الإباحة ، فقال :
إنما حرم عليكم الميتة [ البقرة : 173 ] وهو ما فاتت روحه بغير ذكاة من كل ذي نفس سائلة ، والدم وهو الجاري من الحيوان بذبح أو جرح ، ولحم الخنزير فيه تأويلان :
[ ص: 164 ] أحدهما : أن التحريم مقصور على لحمه دون شحمه اقتصارا على النص ، وهو قول
داود .
والثاني : أن التحريم عام في جميعه ، وخص النص باللحم تنبيها عليه : لأنه معظم مقصوده
وما أهل به لغير الله [ البقرة : 173 ] يريد بالإحلال : الذبح ، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم جهروا بأسماء آلهتهم عند الذبح .
ومن قوله : لغير الله تأويلان :
أحدهما : ما ذبح لغير الله من الأصنام ، قاله
مجاهد .
والثاني : ما ذكر عليه اسم الله من الأصنام ، قال
عطاء : وهو على التأويلين حرام ، فانتهى ما ذكره من التحريم ، ثم ابتدأ بإباحة ذلك للمضطر ، فقال :
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ومن " اضطر " تأويلان :
أحدهما : أنه افتعل من الضرورة .
والثاني : أنه من إصابة الضر وفي
غير باغ ولا عاد ثلاث تأويلات :
أحدها : غير باغ على الإمام بعصيانه ولا عاد على الأمة بفساده ، وهو معنى قول
مجاهد .
والثاني : غير باغ في أكله فوق حاجته ولا عاد بأكلها ، وهو يجد غيرها ، وهو قول
قتادة .
والثالث : غير باغ في أكلها شهوة ، وتلذذا ، ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع ، وهو قول
السدي .
وفي قوله :
فلا إثم عليه تأويلان :
أحدهما : فلا عقاب عليه في أكلها .
والثاني : فلا منع عليه في أكلها ، والاستثناء إباحة أكلها عند الاضطرار من عموم تحريمها مع الاختيار على ما ذكره من شروط الإباحة .
وقال تعالى في سورة المائدة ، وهي من محكمات السور التي لم يرده بعدها نسخ ، واختلف هل نزل بعدها فرض - فقال سبحانه :
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله [ المائدة : 3 ] وذكر في هذه الآية المحرمات مثل ما ذكر في تلك الآية ، وزاد فقال :
والمنخنقة وهي التي تختنق بحبل الصائد ، وكره حتى تموت .
[ ص: 165 ] والموقوذة وهي التي تضرب بالخشب حتى تموت ، وكانت المجوس تقذ ، ولا تذبح ، ليكون دمه فيه ، ويقولون : هو أطيب وأسمن .
والمتردية وهي التي تسقط من رأس جبل أو في بئر حتى تموت .
والنطيحة وهي التي تنطحها أخرى ، فتموت الناطحة والمنطوحة .
وما أكل السبع إلا ما ذكيتم [ المائدة : 3 ] ومأكولة السبع هي فريسته ، التي أكل منها ، أو لم يأكل ، وإنما نص على هذا كله ، وإن كان داخلا في عموم الميتة لأمرين :
أحدهما : لأنها ماتت بأسباب حتى لا تقدروا أن أسباب موتها ذكاة .
والثاني : أنهم كانوا يستطيبون أكلها من قبل ، فنص عليها في التحريم ، ليزول الالتباس .
ومن قوله :
إلا ما ذكيتم قولان :
أحدهما : أنه راجع إلى مأكولة السبع وحدها ، وهو قول أهل الظاهر .
والثاني : أنه راجع إلى جميع ما تقدم من المنخنقة ، وما بعدها ، وهو قول
علي وابن عباس ، وجمهور الفقهاء ، وفيها قولان :
أحدهما : أن يدركها ولها عين تطرف أو ذنب يتحرك ، وهو قول أهل الظاهر .
والثاني : أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح ، وهو قول
الشافعي ومالك .
ثم قال :
وما ذبح على النصب [ المائدة : 3 ] : وفيها قولان :
أحدهما : أنها أصنام كانوا يعبدونها يذبحون لها .
والثاني : أنها أوثان كانوا يذبحون عليها ، لأصنامهم ، والفرق بين الأصنام والأوثان أن الصنم مصور يعبدونه ، والوثن غير مصور ، يتقربون به إلى الصنم ، فهذه كلها محرمات نص الله تعالى على تحريمها في هذه الآية .
ثم قال :
وأن تستقسموا بالأزلام [ المائدة : 3 ] وفيها قولان :
أحدهما : أنه ما يتقامرون به من الشطرنج والنرد .
والثاني : وهو أشهر أنها قداح ثلاثة مكتوب على أحدها : " أمرني ربي " ، وعلى الآخر " نهاني ربي " ، والآخر غفل ، يضربونها وإذا أرادوا سفرا أو أمرا ، فإن خرج : أمرني ربي فعلوه ، وإن خرج " نهاني ربي " تركوه ، وإن خرج الغفل أعادوه .
وفي تسميته : استقساما تأويلان :
[ ص: 166 ] أحدهما : أنهم طلبوا به علم ما قسم لهم .
والثاني : أنهم التزموا بالقداح مثل ما التزموه بقسم اليمين .
ذلكم فسق [ المائدة : 3 ] فيه قولان :
أحدهما : أنه راجع إلى الاستقسام بالأزلام .
والثاني : أنه راجع إلى جميع ما تقدم تحريمه .
وفي قوله :
فسق تأويلان :
أحدهما : كفر ، قاله
السدي .
والثاني : خروج عن طاعة الله ، وهو قول الجمهور ، ثم بين بعد المحرمات حال نعمه عليهم ، فقال :
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم [ المائدة : 3 ] وفي هذا اليوم قولان :
أحدهما : أنه يوم فتح
مكة .
والثاني : أنه يوم حجة الوداع ، وفيما يئسوا به من الدين قولان :
أحدهما : أن يرتدوا عنه .
والثاني : أن يقدروا على إبطاله .
فلا تخشوهم واخشون : أي لا تخشوهم أن يظهروا عليكم ، واخشوني أن تخالفوا أمري .
اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] فيه قولان :
أحدهما : أنه يوم عرفة في حجة الوداع ، ولم يعش بعد ذلك إلا إحدى وثمانين ليلة ، وهذا قول
ابن عباس والسدي .
والثاني : أنه زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - كله إلى أن نزلت عليه هذه الآية في عرفة ، وفي إكماله للدين قولان :
أحدهما : أنه إكمال فرائضه وحدوده وحلاله وحرامه ، ولم ينزل بعدها على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفرائض من تحليل ولا تحريم ، وهذا قول
ابن عباس .
والثاني : أن إكماله برفع النسخ عنه بعد هذا الوقت .
فأما الفروض ، فلم تزل تنزل عليه حتى قبض ، وهذا قول
ابن قتيبة .
وأتممت عليكم نعمتي [ المائدة : 3 ] فيه قولان :
أحدهما : بإظهاركم على عدوكم .
[ ص: 167 ] والثاني : بإكمال دينكم .
ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] فيه قولان :
أحدهما : رضيت دين الإسلام دينا .
والثاني : رضيت الاستسلام أي طاعة ، فروى قبيصة أن
كعب الأحبار ، قال : لو نزلت هذه الآية على غير هذه الأمة لعظموا اليوم الذي نزلت فيه ، واتخذوه عيدا ، فقال
عمر : لقد نزلت بعرفة ، في يوم جمعة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد ، ثم بين بعدها إباحة ما استثناه من المحرمات فقال :
فمن اضطر في مخمصة [ المائدة : 3 ] يعني : مجاعة ، وهي مفعلة من خمص البطن ، وهو اضطماره من الجوع ، مثل : مخملة ومخلة
غير متجانف لإثم [ المائدة : 3 ] وفي المتجانف تأويلان :
أحدهما : أنه المتعمد .
والثاني : أنه المائل .
وفي هذا الإثم تأويلان :
أحدهما : أن يأكل ما حرم عليه مما تقدم ذكره من غير ضرورة .
والثاني : أن يتجاوز في الضرورة ما أمسك الرمق إلى أن ينتهي إلى الشبع ، فإن الله غفور رحيم يعني غفورا للمأثم ، رحيما في الإباحة .
وإنما استوفيت تفسير هاتين الآيتين ، وإن تجاوزنا بهما مسألة الكتاب : لما تعلق بهما من الأحكام والنعم ، مع
إباحة الميتة للمضطر .
ويدل عليه من السنة ما رواه
الأوزاعي عن
حسان بن عطية عن
أبي واقد الليثي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925331قلنا : يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها مخمصة ، فمتى تحل لنا الميتة ؟ قال : ما لم تصطبحوا ، أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها قوله : " تصطبحوا " من الصبوح ، وهو الغداء ، و " تغتبقوا " من الغبوق ، وهو العشاء ، أي لم تجدوا " الحفا " مقصور ، وهو أصول البردي الرطب ، وقيل : إنه أراده وأمثاله من الحشيش : لأنه مأكول يغني عن الميتة .
ومعنى الحديث : أنكم إذا تغذيتم ، فليس لكم أن تأكلوها عند العشاء إذا تعشيتم ، فليس لكم أن تأكلوها عند الغداء : لأن الرمق يتماسك ، وإذا وجدتم " الحفا " فليس لكم أن تأكلوها : لأن الرمق به متماسك ، فدل على إباحة أكلها إذا لم يتماسك الرمق إلا بها .