فصل : وإن
لم يأذن له مالك الطعام في الأكل ، فلا يخلو المضطر من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يقدر على أخذ الطعام منه بغير قتال ، فله أن يأخذ الطعام جبرا ولا يتعدى الآخذ إلى قتاله ، وفي قدر ما يستبيح أخذه منه قولان :
أحدهما : قدر ما يمسك به رمقه .
والثاني : ما ينتهي به إلى حد الشبع ، ويأكله في موضعه ، ولا يحمله : لأن ضرورته معتبرة في مكانه . وقد يجوز أن تزول الضرورة إن زال عنه ، فإذا أكله كانت عليه قيمته بمكانه في وقته .
والحال الثانية : أن لا يقدر على أخذه ، ولا على قتاله عليه ، فمالك الطعام عاص بالمنع ، ومعصيته إن أفضت إلى تلف المضطر أعظم ، لكن لا يضمنه بقود ولا دية : لأنه لم يكن منعه فعلا يتعلق به الضمان .
ولو قيل : إنه يضمن ديته كان مذهبا : لأن الضرورة قد جعلت له في طعامه حقا ، فصار منعه منه كمنعه من طعام نفسه ، وهو لو
منع إنسانا من طعام نفسه حتى مات جوعا ضمن ديته كذلك إذا منعه من طعام قد صار حقه متعلقا به وجب أن يضمن ديته .
والحال الثالثة : أن لا يقدر المضطر على أخذه ، إلا بقتاله عليه ، فله أن يقاتله عليه ، وهل يجب عليه أن يقاتله حتى يصل إلى طعامه أم لا على وجهين ممن أريدت نفسه هل يجب عليه المنع منها ؟ أحدهما : يجب عليه أن يقاتله : ليصل إلى إحياء نفسه بطعامه ، كما يجب عليه أكل الميتة لإحياء نفسه بها .
والوجه الثاني : أن القتال مباح له ، وليس بواجب عليه : لأن مالك الطعام لا ينفك في الأغلب من دين أو عقل يبعث كل واحد منهما على إحياء المضطر بماله ، فجاز أن يكون موكولا إليه ، وخالف أكل الميتة في الوجوب : لأنه لا سبيل إلى إحياء
[ ص: 174 ] نفسه إلا بها ، فإذا شرع في قتاله توصل بالقتال إلى أخذ ما يتعلق به الإباحة من طعامه ، وفيه ما قدمناه من القولين :
أحدهما : يقاتله إلى أن يصل إلى أخذ ما يمسك الرمق ، فإن قاتله بعد الوصول إلى إمساك الرمق كان متعديا .
والقول الثاني : يقاتله إلى أن يصل إلى قدر الشبع ، ويكون القتال بعد الوصول إلى إمساك الرمق مباحا ، وليس بواجب وجها واحدا ، وقتاله بعد الوصول إلى قدر الشبع عدوان .
فإن لم يصل بالقتال إلى شيء من طعامه حتى تلف أحدهما ، نظر ، فإن كان التالف رب الطعام كانت نفسه هدرا لا تضمن بقود ولا دية : لأنه مقتول بحق ، كمن طلب نفس إنسان ، فقتله المطلوب دفعا ، كانت نفسه هدرا ، وإن كان التالف المضطر كانت نفسه مضمونة على رب الطعام : لأنه قتل مظلوما ، ثم نظر فإن علم رب الطعام بضرورة المضطر ضمنه بالقود ، وإن لم يعلم بضرورته ضمنه بالدية : لأنه مع العلم بها عامد ، ومع الجهل بها خاطئ ، والله أعلم .