مسألة : قال
الشافعي : " ومن قال : والله لقد كان كذا ولم يكن أثم وكفر واحتج بقول الله تعالى :
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى نزلت في رجل حلف لا ينفع رجلا ، فأمره الله أن ينفعه ، وبقول الله جل ثناؤه في الظهار :
وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ثم جعل فيه الكفارة وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=922135فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ، فقد أمره بالحنث عامدا وبالتكفير ، ودل إجماعهم أن من حلف في الإحرام عمدا أو خطأ أو قتل صيدا عمدا أو أخطأ في الكفارة سواء ، على أن الحلف بالله وقتل المؤمن عمدا أو خطأ في الكفارة سواء .
قال
الماوردي : قد مضى اليمين على الفعل المستقبل ، فأما
اليمين على الفعل الماضي فضربان :
[ ص: 267 ] أحدهما : أن يكون على إثبات كقوله : والله لقد فعلت كذا .
والثاني : أن يكون على نفي كقوله : والله ما فعلت كذا ، فلا يخلو أن يكون فيها صادقا أو كاذبا ، فإن كان صادقا قد فعل ما أثبت وترك ما نفى فلا كفارة عليه : لأنها يمين بره ، وإن كان كاذبا : لأنه لم يفعل ما أثبته وفعل ما نفاه ،
فقال : والله لقد أكلت ، ولم يأكل ، أو قال : والله ما أكلت وقد أكل ، فهو في هذه اليمين عاص آثم ، وتسمى
اليمين الغموس : لأنها تغمس الحالف بها في المعاصي ، وقيل : في النار .
واختلف الفقهاء
هل يجب بها الكفارة أم لا ؟ فمذهب
الشافعي : أن الكفارة فيها واجبة ، ووجوبها مقترن بعقدها ، وهو قول
عطاء ،
والحكم ،
والأوزاعي .
وقال
أبو حنيفة : لا تجب به الكفارة ، وبه قال
مالك ،
وسفيان الثوري ،
والليث بن سعد ،
وأحمد ،
وإسحاق : استدلالا بقول الله تعالى :
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] ، ومنه دليلان :
أحدهما : أن اليمين الغموس هي اللغو ، والعفو عنها متوجه إلى الكفارة .
والثاني : أن قوله :
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] ، وعقد اليمين ما التزم فعلا مستقبلا يتردد بين حنث وبر ، فخرجت اليمين الغموس من الأيمان المعقودة ، فلم يلزم بها كفارة ، ثم ختم الآية بقوله :
واحفظوا أيمانكم يعني في المستقبل ، من الحنث .
واستدلوا بما روى
ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925377من حلف يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله تعالى وهو عليه غضبان .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
اليمين الغموس تدع الديار بلاقع من أهلها فأخبر بحكمها ولم يوجب الكفارة فيها .
والقياس أنها يمين على ماض فلم تجب بها كفارة كاللغو .
ولأنها يمين محظورة ، فلم تجب بها كفارة كاليمين بالمخلوقات .
قالوا : ولأن اقتران اليمين بالحنث يمنع من انعقادها : لأن حدوثه فيها يدفع عقدها كالرضاع لما رفع النكاح إذا طرأ منع انعقاده إذا تقدم .
ودليلنا : قول الله تعالى :
ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم [ المائدة : 89 ] ، بعد صفة الكفارة ، فاقتضى الظاهر لزومها في كل يمين وقال تعالى :
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم [ البقرة : 225 ] ،
ولغو اليمين ما سبق به لسان الحالف من غير قصد ولا نية ، واليمين الغموس مقصودة ، فكان بها مؤاخذا ومؤاخذته بها توجب تكفيرها ، فإن منعوا من تسمية الغموس يمينا بطل منعهم
[ ص: 268 ] بقول الله تعالى :
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر [ التوبة : 74 ] وقال تعالى :
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ، [ التوبة : 56 ] .
ومن القياس : أنها يمين بالله تعالى قصدها مختارا : فوجب إذا خالفها بفعله أن تلزمه الكفارة كالمستقبل ولأنه أحد نوعي اليمين ، فوجب أن ينقسم إلى بر وحنث كالمستقبل : ولأن كل ما كان في غير اليمين كذبا كان في اليمين حنثا كالمستقبل : ولأنها يمين تتعلق بالحنث المستقبل ، فوجب أن تتعلق بالحنث الماضي كاليمين بالطلاق والعتاق : لأنه لو حلف بالطلاق والعتاق لقد دخل الدار ، ولم يدخلها لزمه الطلاق والعتاق .
وكما لو حلف ليدخلها في المستقبل ، فلم يدخلها وهذا وفاقا كذلك في اليمين بالله : ولأن وجوب الكفارة في الأيمان أعم في المأثم : لأنها قد تجب فيما يأثم به ولا يأثم ، فلما لحقه المأثم في الغموس كان بوجوب الكفارة أولى .
فأما الجواب عن قوله تعالى :
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم [ البقرة : 225 ] ، فهو أن لغو اليمين ما لم يقصد منها على ما سنذكره ، فأما المقصود بالعقد فخارج عن حكم اللغو وهو المعقود عليه من أيمانه وهو من كسب قلب المأخوذ بإثمه كما قال تعالى :
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، [ البقرة : 225 ] ، ولئن كانت اليمين المستقبلة تتردد بين بر وحنث ، فالغموس مترددة بين صدق وكذب ، فصارت ذات حالين كالمستقبلة ، وإن اختلفت الحالتان .
ألا تراه لو
حلف ليصعدن السماء وليشربن ماء البحر حنث لوقته .
وإن لم يتردد يمينه بين حنث وبر ، وكذلك لو
حلف ليقتلن زيدا ، وكان زيد قد مات حنث ، ولزمته الكفارة ، وإن لم يتردد يمينه بين بر وحنث وكذب ؛ لأنها مقصودة كذلك يمين الغموس في الماضي .
فأما قوله تعالى :
واحفظوا أيمانكم [ المائدة : 89 ] ، فحفظها قبل اليمين أن لا يحلف وبعد اليمين أن لا يحنث ، كما قال الشاعر :
قليل الألايا حافظ لعهده وإن بدرت منه الألية برت
وأما الجواب عن الخبرين فمن وجهين :
أحدهما : أن الإمساك عن الكفارة فيها اكتفاء بما ورد به القرآن من وجوبها .
والثاني : أن المقصود بها حكم الآخرة ، والكفارة من أحكام الدنيا .
[ ص: 269 ] وأما الجواب عن قياسهم على لغو اليمين فهو أن لغو اليمين غير مقصودة فخرج عن اليمين المقصودة .
وأما الجواب عن قياسهم على اليمين بالمخلوقات فهو أنه لا يلزم في جنسها كفارة فخالفت الأيمان بالله .
وأما الجواب عن قياسهم على النكاح ، فهو أنه منتقض بيمينه أن يصعد السماء ثم المعنى في النكاح أن مقصوده الاستمتاع والاستباحة ، فإذا امتنع في النكاح بطل ومقصود اليمين وجوب الكفارة في الحنث وسقوطها في البر ، وهذا موجود في المستقبل والماضي .