الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " أو زبدا فأكل لبنا لم يحنث ؛ لأن كل واحد منها غير صاحبه " .

قال الماوردي : أما إذا حلف لا يأكل لبنا ولا يشرب اللبن حنث بكل لبن مباح من معهود وغير معهود ، فالمعهود ألبان الإبل والبقر والغنم ، وغير المعهود لبن الصيد . وعند ابن سريج أنه يحنث بالمعهود من ألبان النعم ، ولا يحنث بغير المعهود من ألبان الصيد ، كما قال في البيض .

فأما ألبان الخيل فهي معهودة في بلاد الترك ، وغير معهودة في بلاد العرب .

وأما ألبان الآدميات فمعهودة في الصغار ، وغير معهودة في الكبار .

وفي حنثه بالألبان المحرمة ، كألبان الحمير والكلاب وجهان ، كما قلنا في حنثه باللحوم المحرمة :

أحدهما : يحنث اعتبارا بالاسم .

[ ص: 429 ] والثاني : لا يحنث اعتبارا بالشرع .

وأما إذا حلف لا يأكل زبدا ، فالزبد المعهود يكون من لبن البقر والغنم ، وليس لألبان الإبل زبد ، فيحنث بزبد البقر والغنم .

وإن كان لألبان شيء من الصيد زبد ، فهو نادر غير معهود ، فيحنث به على مذهب الشافعي اعتبارا بالاسم ، ولا يحنث به على قول ابن سريج اعتبارا بالعرف .

ولو حلف بأكل اللباء ، فهو أول لبن يحدث بالولادة بعد انقطاعه بالحمل إذا وافق وقت الولادة وحلب بعدها ، وفي حنثه بما حلب قبلها وجهان من اختلاف الوجهين فيما تقدم على الولادة من دم النفاس ، هل يكون نفاسا على وجهين :

إن قيل : يكون نفاسا ، كان هذا اللبن لباء ، وإن قيل : لا يكون نفاسا ، لم يكن هذا اللبن لباء ، وغالب اللباء بعد الولادة ثلاث حلبات ، وربما زاد ونقص بحسب اختلاف الحيوان في القوة والضعف .

وصفته ما خالف اللبن في لونه وقوامه ، فإن لون اللباء يميل إلى الصفرة ، وهو أثخن من اللبن ، وهو عند الرعاة معروف .

وسواء أكله نيئا أو مطبوخا ، وإن كان عرفه أن يؤكل مطبوخا كاللحم .

فإذا تقررت هذه الجملة ، وحلف أن لا يأكل زبدا ، فأكل لبنا لم يحنث ، لأنه مفارق للزبد في الاسم والصفة .

ولو أكل سمنا ففي حنثه وجهان :

أحدهما : وهو قياس قول ابن أبي هريرة يحنث به ، لاشتراكهما في الصفة ، ولو حلف لا يأكل لبنا حنث بجميع ما تناوله اسم اللبن على الإطلاق من حليب ومخيض ورائب وذائب وجامد .

فأما الزبد فلا يحنث به إذا حلف لا يأكل لبنا ، كما لا يحنث بأكل اللبن إذا حلف لا يأكل زبدا . وقال أبو علي بن أبي هريرة : يحنث بالزبد إذا حلف لا يأكل اللبن ، لأنه من اللبن ، ولا يحنث باللبن إذا حلف لا يأكل الزبد ، لأنه ليس اللبن من الزبد .

وعلل ذلك بأن اسم اللبن عام واسم الزبد خاص ، فدخل خصوص الزبد في عموم اللبن ، ولم يدخل عموم اللبن في خصوص الزبد ، وهذا قول فاسد ، ولو كان للفرق بينهما وجه ، لكان عكس قوله أولى ، فيحنث باللبن إذا حلف لا يأكل زبدا ، لأن في اللبن زبدا ، ولا يحنث بالزبد إذا حلف لا يأكل لبنا ، لأنه ليس في الزبد لبن ، فلما [ ص: 430 ] كان هذا فاسدا كان ما ذهب إليه من العكس أفسد ، ووجب أن يعتبر ما قررناه من اجتماع الأمرين الاسم والصفة ، لأنه مستمر في القياس ، فلا يحنث بالزبد إذا حلف لا يأكل اللبن ، ولا يحنث باللبن إذا حلف لا يأكل الزبد ، لأنهما يختلفان في الاسم والصفة .

وعلى هذا القياس إذا حلف لا يأكل اللبن لم يحنث بالجبن والمصل .

وإذا حلف لا يأكل الجبن والمصل لا يحنث باللبن ، لاختلافهما في الاسم والصفة ، وعند ابن أبي هريرة أنه يحنث بالجبن والمصل إذا حلف لا يأكل اللبن ، لأنهما من اللبن ، ولا يحنث باللبن إذا حلف لا يأكل الجبن والمصل ، لأن اللبن لا يكون منهما .

ولو كان لقوله هذا وجه ، لوجب أن يحنث بالتمر إذا حلف لا يأكل رطبا ، لأنه من رطب ولا يحنث بالرطب إذا حلف لا يأكل التمر ، لأنه ليس من التمر ، ولا أحسب ابن أبي هريرة يقول هذا ، وإن كان تعليله يقتضيه ، لأن الإجماع منعقد على خلافه .

التالي السابق


الخدمات العلمية