فصل : [ القول في
تصفح أحوال المحبوسين ] .
والأمانة الثانية : أن يكون أول ما ينظر فيه أن يتصفح أحوال المحبوسين .
ولا يحتاج في تصفح أحوالهم إلى متظلم إليه لعجز المحبوسين عن التظلم .
فينفذ إلى الحبس ثقة أمينا ومعه شاهد عدل .
فيثبت بالقرعة اسم كل واحد من المحبوسين وما حبس به واسم خصمه حتى يستوعب جميعهم . ويتصفحه القاضي . ثم ينادي في الناس ثلاثة أيام إن اتسع البلد أو يوما إن صغر : إن القاضي قد بدأ في أمور المحبوسين فمن كان له على محبوس حق فليحضر في يوم كذا ويعين لهم على اليوم .
ويكون عقيب فراغه من النداء ليتعجل أمرهم ولا يتأخر فيجعله اليوم الرابع من ندائه .
[ ص: 36 ] فإذا اجتمع الخصوم أقرع بين المحبوسين فيمن يقدمه في النظر ، ولم يقرع بين الخصوم ، لأن نظره للمحبوسين على خصومهم ولم يقتصر على القرعة الأولى في إثبات أسمائهم .
فإذا فرغ أحدهم أمر بإخراجه ونادى بإحضار خصمه . ولا يفتقر في إخراج المحبوسين إلى إذن خصمه ، لأنه يخرج في حقه لا في حق حابسه .
وإن كان الحبس بعيدا من مجلس الحكم أخرج بالقرعة جميع من يقدر على النظر بينهم في يومه قبل شروعه في النظر .
فإذا تكاملوا بدأ بالنظر في أمر الأسبق بالقرعة الماضية ولم يستأنف قرعة ثانية لأن القرعة لإخراجه إنما كانت للنظر في أمره .
وإن كان الحبس قريبا من مجلس الحكم لم يخرج منه ثانيا إلا بعد فراغه من النظر في أمر الأول : لأن المقصود اتصال نظره وقد لا يتصل مع البعد إلا بإخراج جميعهم ، ويتصل مع القرب بإخراج واحد بعد واحد .
فإذا تقدم المحبوس إليه سأله عن سبب حبسه ولم يقتصر على السؤال الأول في الحبس وعارضه به فإن اتفقا وإلا عمل على أغلظ الأمرين من الأول والثاني فإن ثبت في ديوان الحكم سبب حبسه قابله بما قاله في الأول والثاني وعمل على أغلظ الثلاثة .
فإذا استقر العمل بأحدها كان له فيما يذكره من سبب حبسه خمسة أحوال :
أحدها : أن يقول حبسني تعزيرا للذي كان مني ولم يحبسني لخصم ، فقد استوفى حبس التعزير بعزل الأول وإن لم يستكمل مدة حبسه مع بقاء نظر الأول : لأن الثاني لا يعزر لذنب كان مع غيره .
ولم يطلقه لجواز أن يكون له خصم لم يذكره حتى ينادي في الناس أياما بأن القاضي قد رأى إطلاق فلان من حبسه فإن كان له خصم قد حبس له فليحضر ولا ينادي بأن يحضر كل خصم له ممن لم يحبس في حقه .
فإذا مضت ثلاثة أيام ولم يحضر له خصم أطلقه بعد إحلافه أنه ما حبس بحق خصم .
والحال الثانية : أن يقول حبسني لتعديل بينة شهدت علي ؛ فقد اختلف أصحابنا في جواز حبسه بذلك على وجهين :
أحدهما : وهو قول
أبي إسحاق المروزي : يجوز حبسه على تعديل البينة لأن على المدعي إقامة البينة ، وعلى القاضي الكشف عن العدالة فلم يمنع ما على القاضي من حبسه في حق المدعي .
[ ص: 37 ] والوجه الثاني : لا يجوز أن يحبس على تعديل البينة لأن الحق لا يلزم إلا بعد ثبوت عدالتهما .
فإن قيل : بجواز حبسه لم يجز إطلاقه ولا إعادته إلى حبسه من غير استدعاء لخصومه لبقائه على حاله .
وإن قيل : بأن حبسه لا يجوز نظر : فإن كان القاضي قال قد حكمت بحبسه لزم حبسه باجتهاده ولم يجز إطلاقه وإن لم يقل قد حكمت بحبسه وجب إطلاقه لكن لا يعجل بإطلاقه حتى ينادي في الناس ثلاثة أيام أن القاضي قد حكم بإطلاق فلان من حبسه فإن كان له خصم قد حبس له فليحضر ثم يطلقه بعد الثلاثة .
والحال الثالثة : أن يقول حبسني تعديا بغير حق ولغير خصم فقد ادعى ما يخالف الظاهر من أحوال القضاة وحبسه حكم فلا ينقض إلا بيقين الفساد وعمل على بينة إن كانت .
فإن شهدت أنه حبس بحق عزر في جرحه لحابسه .
وإن شهدت أنه حبس لظلم نادى ثلاثا في حضور خصم إن كان له ثم أطلق بعد ثلاثة إن لم يحضر .
وإن لم تقم بينة بأحد الأمرين أعاده إلى حبسه ويكشف عن حاله وكان مقيما في حبسه حتى ييأس القاضي بعد الكشف من ظهور حق عليه ، وطالبه بكفيل بنفسه ثم أطلقه .
فإن قيل : فالكفالة بالنفس لا تصح إلا ممن ثبت عليه حق قبل الحبس من جملة الحقوق .
فإن عدم كفيلا استظهر في بقاء حبسه على طلب كفيل ثم أطلقه عند إعوازه وهو غاية ما يقدر عليه القاضي من استظهاره .
والحال الرابعة : أن يقول : حبسني لخصم بما لا يستحق لأنني أرقت عليه خمرا أو قتلت له خنزيرا .
فإن كان الخصم مسلما لم يكن له حق باستهلاك ذلك عليه وكان حبسه به ظلما يجب إطلاقه منه للاتفاق على سقوط غرمه في حق المسلم .
وإن كان الخصم ذميا فإن كان القاضي شافعيا لا يرى وجوب غرمه كان حكمه باطلا لأنه حكم بما لا يراه في اجتهاده ، وصار القاضي الثاني هو الحاكم .
فإن كان شافعيا أيضا لا يرى وجوب الغرم كالأول حكم بإطلاق المحبوس .
[ ص: 38 ] وإن كان حنفيا وحكم بمذهبه في وجوب الغرم حكم بحبسه إن امتنع .
وإن كان القاضي الأول حنفيا يرى وجوب الغرم والحبس ، فإن كان رأي القاضي الثاني مثل رأيه كان المحبوس على حبسه .
وإن كان مخالفا له في رأيه يرى مذهب
الشافعي في سقوط غرمه لم ينقض حكم الأول لنفوذه في اجتهاد مسوغ .
وفي وجوب إمضائه على الثاني قولان :
أحدهما : يجب عليه أن يمضيه ولا يحكم به ويلزم المحبوس حكم إقراره .
والقول الثاني : لا يمضيه لبطلانه عنده ويعيده إلى حبسه من غير أن يلزمه القضاء ، لأنه لا يراه ، ولم يطلقه ، لأنه لا ينقض الحكم به ، وأقره فيه حتى يصطلحا
والحال الخامسة : أن يقول حبسني لخصم بحق فيسأل عن خصمه وعن الحق الذي حبس به فإذا أحضر وطالب لم يخل الحق من أن يكون في مال أو على بدن .
فإن كان من حقوق الأبدان كالقصاص وحد القذف فالحبس به غير مستحق لأن تعجيل استيفائه منه ممكن فيستوفى ويخلى بعد النداء عليه .
وإن كان من حقوق الأموال فضربان :
أحدهما : أن يكون عينا .
والثاني : أن يكون في الذمة .
فإن كان الحق عينا : لم تخل أن تكون مستحقة بعقد أو عن غصب فإن استحق بعقد كالمبيع إذا لم يقبض حكم فيه بما يوجبه حكم العقد من بقاء الثمن أو قبضه .
وإن استحق بغير عقد كالمغصوب ، فإن ثبت غصبه ببينة حكم القاضي بتسليمه وإن ثبت بإقراره رفع يده عنه ، ولم يمنع المدعي منه ولم يحكم له بتسليمه لجواز أن يكون لغيره .
وإن كان مالا في الذمة : أمره بقضائه إن كان مليئا .
وإن ادعى عسرة نظر في سبب الاستحقاق ، فإن كان عن مقابلة مال صار إليه كثمن مبيع قبضه ومال اقترضه لم تقبل منه دعوى الإعسار إلا بعد الكشف .
وإن كان من غير مال صار إليه ، لأنه قيمة لمتلف أو مهر وصداق قبل قوله في العسرة مع يمينه ووجب إطلاقه بها بعد النداء عليه لجواز حضور خصم آخر إن كان له .
[ ص: 39 ] فإن أقام صاحب الدين البينة على أن للمحبوس مالا نظر فإن لم تعين البينة المال لم تسمع الشهادة للجهل بها .
وإن عينت المال وشهدت بأن له هذه الدار سئل المحبوس عنها ، فإن اعترف بها لنفسه حكم عليه بقضاء الدين فإن امتنع من قضائه باعها عليه القاضي وقضى دينه .
وإن أنكرها فله حالتان :
إحداهما : أن لا يقر بها لغيره فلا يؤثر إنكاره وتباع عليه في قضاء دينه .
والحال الثانية : أن يقر بها لغيره فيقول هي لزيد ، فيسأل زيد عنها فإن أنكرها وأكذبه في إقراره بها بيعت عليه في قضاء دينه ووكل القاضي عنه وكيلا يبيعها عليه ولا يتولى القاضي بيعها مع إنكاره .
وإن صدقه زيد على إقراره بها له وادعى ملكا لنفسه قيل له : ألك بينة بأن الدار لك ملك ؟ فإن أقامها حكم له بالدار دون المحبوس : لأن معه بإقرار المحبوس بينة ويدا فكان أولى من بينة المحبوس مع زوال يده بالإنكار . وإن لم تكن له بينة ففي الحكم بها لزيد وجهان :
أحدهما : يحكم بها لزيد لأن المحبوس قد أبطل بينته بإقراره فبطلت شهادتها له وصار مقرا بها لزيد فلزم إقراره .
والوجه الثاني : أن لا يحكم بها لزيد وتكون الدار في حكم ملك المحبوس لأن البينة شهدت له بالملك ولصاحب الدين بالقضاء ، فإذا كذبها ردت في حق نفسه ولم ترد في حق صاحب الدين .