فصل : والذي يشتمل عليه كتاب الله من النصوص في الأحكام قيل إنها خمسمائة آية .
تنقسم ستة أقسام :
أحدها : العموم والخصوص .
والثاني : المجمل والمفسر .
والثالث : المطلق والمقيد .
والرابع : الإثبات والنفي .
والخامس : المحكم والمتشابه .
والسادس : الناسخ والمنسوخ .
[ القسم الأول : العموم والخصوص ] .
فأما القسم الأول وهو العموم والخصوص :
فالعموم هو الجمع والاشتراك مأخوذ من قولهم قد عم الأمن والخصب .
[ ص: 58 ] وأقل العموم ثلاثة هي أقل الجمع ، ومن جعل أقل الجمع اثنين جعلهما أقل العموم .
والخصوص : هو الانفراد مأخوذ من قولهم زيد مخصوص بالشجاعة إذا لم يكن فيهم أشجع منه .
وأقل الخصوص واحد .
ويجوز أن يكون الخصوص مخرجا لأقل العموم وأكثره إذا انطلق على الباقي اسم العموم كالاستثناء ويكون المخصوص غير مراد بالعموم بخلاف النسخ ، ويصير المراد بالعموم هو للباقي منه بعد المخصوص .
ويجوز تخصيص العموم المطلق .
ومنع بعض الناس من تخصيص ما أكد ؛ وليس بصحيح لوجود الاحتمال بعد التأكيد كوجوده من قبل .
فأما الأحوال : فإذا تقرر هذا لم يخل العموم من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يقترن به من الدلائل أو شواهد الأحوال ما يوجب حمله على عمومه فيجب حمله على مقتضى العموم ، مثل قوله تعالى :
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ النساء : 23 ] . وهو محمول على العموم في تحريم الأمهات والبنات من غير تخصيص .
والحال الثانية : أن يقترن به ما يدل على تخصيصه ، مثل قوله تعالى
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية إلى قوله
من قبل أن تقدروا عليهم [ المائدة : 33 ، 34 ] . فخص من عموم القتل التائب قبل القدرة عليه ؛ فوجب أن يستعمل هذا العموم على ما اقتضاه التخصيص .
الحال الثالثة : أن يكون العموم مطلقا لم يقترن به ما يدل على أحد الأمرين .
فقد اختلف أهل العلم فيما يوجبه إطلاقه على أربعة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب أهل الظاهر أنه لا صيغة للعموم توجب العمل بها ، والواجب فيه التوقف حتى يقوم دليل على المراد به كالمجمل لما تضمنه من الاحتمال .
والثاني - وهو مذهب بعض المتكلمين أن الواجب استعماله على عمومه ما لم يقم دليل على تخصيصه من غير نظر ولا اجتهاد امتثالا لموجب الأمر .
والثالث : وهو مذهب أهل
العراق أنه قبل التخصيص مستعمل على عمومه من
[ ص: 59 ] غير اجتهاد ولا نظر ، وبعد التخصيص مجمل لا يستعمل إلا بعد البيان : لأنه قبل التخصيص جلي ، وبعد التخصيص خفي .
والرابع : وهو مذهب
الشافعي أن لمطلق العموم صيغة توجب النظر والاجتهاد في أدلة تخصيصه ، فإن وجد ما يخصه استعمل باقيه بعد تخصيصه ، وإن لم يوجد ما يخصه أجري على عمومه ، ولا يجوز استعماله قبل النظر ولا يصير مجملا بعد التخصيص ، لأنه قبل النظر والاجتهاد متكافئ الاحتمال ، وبعد إمعان النظر والاجتهاد مترجح الاستعمال ، وليس لزمان النظر والاجتهاد وقت مقدر وإنما هو معتبر بما يؤديه الاجتهاد إليه من الرجاء والإياس .
وإذا كان كذلك فأدلة التخصيص تؤخذ من أربعة أصول : الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
فأما
تخصيص الكتاب : فمثل قوله تعالى :
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] . فاقتضى عمومه إيجاب العدة على كل مطلقة فخص منه المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى :
إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ الأحزاب : 146 ] .
وأما
تخصيص الكتاب بالسنة : فمثل قوله تعالى :
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] . خصه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=924241لا قطع في أقل من ربع دينار " ولا قطع في ثمر ولا أكثر ، ومثل قوله تعالى
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، [ التوبة : 5 ] .
nindex.php?page=hadith&LINKID=925486ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والولدان .
وأما
تخصيص الكتاب بالإجماع : فمثل قوله تعالى :
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 11 ] . خصه الإجماع في أن العبد لا يرث . وخصته السنة في أن القاتل والكافر لا يرثان فصارا بعضها مخصوصا بالسنة وبعضها مخصوصا بالإجماع .
وأما
تخصيص الكتاب بالقياس : فمثل قوله تعالى :
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] . ثم خصت الأمة بنصف الحد نصا بقوله :
فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، [ النساء : 25 ] . ثم خص العبد بنصف الحد قياسا على الأمة فصار بعض الآية مخصوصا بالكتاب وبعضها مخصوصا بالقياس ، ومثل قوله تعالى :
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله إلى قوله
فكلوا منها [ الحج : 36 ] . ثم خص الإجماع تحريم الأكل من جزاء الصيد وخص القياس عند
الشافعي تحريم الأكل من هدي المتعة ، والقرآن قياسا على جزاء الصيد ؛ فصار بعض الآية مخصوصا بالإجماع وبعضها مخصوصا بالقياس .
[ ص: 60 ] [ القول في
تخصيص العموم بالقياس ] .
ويجوز
تخصيص العموم بالقياس الجلي .
وفي جواز
تخصيصه بالقياس الخفي وجهان .
فإذا عدم المجتهد أدلة التخصيص من أحد هذه الأصول الأربعة وجب عليه استعمال العموم على العموم .
فإذا خص العموم بما ذكرنا من أحد الأصول الأربعة جاز القياس على المخصوص من العموم ولم يجز القياس على الباقي من العموم .
مثاله : أن قوله تعالى :
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 37 ] . لما خص منه من سرق من ثمر أو كثر في سقوط القطع عنه لم يجز أن نقيس على قطع السارق قطع من ليس بسارق ، وجاز أن نقيس على سارق الثمر والكثر سارق غير الثمر والكثر في سقوط القطع عنه .
والفرق بينهما : أن العموم لما ضعف حكمه عن استيفاء اسمه ضعف معناه عن اجتذاب غيره ، والمخصوص لما قوي حكمه على استيفاء اسمه قوي معناه على اجتذاب غيره .
ولذلك قاس
الشافعي على جزاء الصيد في تحريم أكله وهو مخصوص تحريم هدي المتعة ولم يقسه على بقية العموم في الإباحة .