فصل : [ القسم الرابع الإثبات والنفي ] .
وأما القسم الرابع وهو الإثبات والنفي : فينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : إثبات تجرد عن نفي .
والثاني : نفي تجرد عن إثبات .
والثالث : ما اجتمع فيه نفي وإثبات .
[ القول في الإثبات المتجرد عن النفي ] .
فأما القسم الأول : في الإثبات إذا تجرد عن نفي فضربان :
أحدهما : أن يقترن بحرف التحقيق فيكون إثباته نفيا لما عداه كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920628إنما الأعمال بالنيات " ، وكقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925491وإنما الولاء لمن أعتق " فيكون إثبات العمل بالنية موجبا لنفيه من غير نية ، وإثبات الولاء للمعتق موجبا لنفيه لغير المعتق .
وسواء كان هذا الإثبات جوابا أو ابتداء .
لكن اختلف في النفي به هل هو بلفظ النطق أو بدليله ؟ على وجهين :
أحدهما : أن الذي أوجب النفي بعد الإثبات هو دليل اللفظ دون اللفظ فيكون دليل الخطاب هو الموجب للنفي : لأنها لفظة تحقيق فجرت مجرى التأكيد .
والوجه الثاني : أنها أوجبت النفي والإثبات بنفس اللفظ ، لأن لفظة " إنما " موضوعة في اللغة لإثبات ما اتصل بها ونفي ما انفصل عنها .
والضرب الثاني : أن يتجرد الإثبات عن حرف التحقيق كقوله - صلى الله عليه وسلم - "
في سائمة الغنم زكاة " وكقوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=924545القطع في ربع دينار " فلمخرجه حالتان :
إحداهما : أن يكون جوابا لسائل عن الزكاة في سائمة الغنم فقال : "
في سائمة [ ص: 68 ] الغنم زكاة " ولسائل عن القطع في ربع دينار فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=924545القطع في ربع دينار " فلا يكون هذا الإثبات نفيا لما عداه لأن مقصوده بيان السؤال .
والحال الثانية : أن يبدأ به الرسول فيقول مبتدئا : وفي سائمة الغنم زكاة و " القطع في ربع دينار " فيكون هذا الإثبات نفيا لما عداه فلا تجب الزكاة في غير السائمة ولا يجب القطع في أقل من ربع دينار لأنه لا بد لتخصيص هذا بالذكر من موجب فلما خرج عن الجواب ثبت وروده للبيان .
هذا هو الظاهر من مذهب
الشافعي ، وقول جمهور أصحابه .
وذهب
أبو العباس بن سريج وأبو حامد المروزي إلى أن حكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل لما تضمنه من الاحتمال .
وهذا فاسد بما ذكرنا من التعليل .
وإذا انتفى حكم الإثبات عما عداه على ما بيناه ، فقد اختلف أصحابنا في موجب نفيه عنه على وجهين :
أحدهما : أوجبه لسان العرب لغة .
والوجه الثاني : بل أوجبه دليل الخطاب شرعا .
[ القول في النفي المتجرد عن الإثبات ] :
وأما القسم الثاني : في النفي إذا تجرد عن إثبات فضربان :
أحدهما : أن يكون جوابا لسؤال فلا يكون النفي موجبا لإثبات ما عداه كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=924337لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان " لا يدل على التحريم بالثالثة .
والضرب الثاني : أن يبتدئ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920884لا يقبل الله صلاة بغير طهور " فدل على قبولها بالطهور ويكون نفي الحكم عن تلك الصفة موجبا لإثباته عند عدمها .
وهو الظاهر من مذهب
الشافعي .
ويحتمل قول من جعل ما عدا الإثبات موقوفا أن يجعل ما عدا النفي موقوفا .
وإذا كان حكم النفي مطلقا يحتمل نفي الجواز ونفي الكمال حمل على نفي الجواز لعمومه كقوله - صلى الله عليه وسلم - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920884لا يقبل الله صلاة بغير طهور " فكان هذا النفي مانعا من أجزائها .
فإن قام دليل على نفي الكمال حمل عليه كقوله "
لا صلاة لجار المسجد إلا في مسجده " لما قام الدليل على أجزائها حمل على نفي كمالها .
[ ص: 69 ] ويجيء على مذهب من قال بوقف المحتمل بجعل هذا موقوفا لأنه محتمل .
[ القول فيما اجتمع فيه نفي وإثبات ] :
وأما القسم الثالث الجامع للنفي والإثبات فيشتمل على ثلاثة أنواع :
أحدهما : الاستثناء .
والثاني : الشرط .
والثالث : الغاية .
[ النوع الأول : الاستثناء ] :
فأما النوع الأول وهو
الاستثناء : فالمعتبر في ثبوت حكمه ثلاثة أشياء :
أحدها : أن يرجع إلى أصل يبقى منه بعد الاستثناء بعضه وإن قل ، وإن رفع جميعه لم يصح ، لأنه يصير نسخا ، ويثبت حكم الأصل ويبطل حكم الاستثناء .
والثاني : أن يكون الاستثناء من جنس الأصل ليصح به خروج بعضه .
فإن عاد إلى غير جنسه صح على مذهب
الشافعي في المعنى دون اللفظ .
وأجاز قوم في اللفظ والمعنى . وأبطله آخرون في اللفظ والمعنى .
وبيان ما ذهب إليه
الشافعي في جوازه في المعنى دون اللفظ هو كقوله : له علي ألف درهم إلا دينارا فلا يجعل لفظ الدينار استثناء من لفظ الدراهم لأنه لا يجانسها وإنما تجعل قيمته مستثناة من الدراهم ، لأنه لا ينافيها ؛ فصار الاستثناء في المعنى دون اللفظ .
والثالث : أن يتعلق على الاستثناء ضد حكم الأصل فإن كان الأصل إثباتا صار الاستثناء نفيا ، وإن كان الأصل نفيا صار الاستثناء إثباتا .
وإن عاد الاستثناء إلى جمل مذكورة تقدمته يمكن أن يعود إلى جميعها ويمكن أن يعود إلى بعضها فمذهب
الشافعي أنه يعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل كقول الله تعالى
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية إلى قوله :
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم [ المائدة : 36 ] . فكان ذلك راجعا إلى جميع ما تقدم من القتل والصلب والقطع والنفي .
وقال
أبو حنيفة : يرجع إلى أقرب مذكور إلا أن يعمه دليل كقوله تعالى :
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ النساء : 92 ] . فرجع ذلك إلى أقرب مذكور وهو الدية دون الكفارة .
وكذلك ما اختلفا في قوله تعالى :
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ ص: 70 ] [ النور : 4 - 5 ] .
أن التوبة عند
أبي حنيفة ترجع إلى الفسق وحده ، لأنه أقرب مذكور .
وعند
الشافعي ترجع إلى الفسق وقبول الشهادة اعتبارا بالعموم .
ولا ترجع عندهما جميعا إلى الجلد مع اختلافهما في التعليل .
فعند
أبي حنيفة لبعده عن أقرب مذكور .
وعند
الشافعي لخروجه بدليل : وهو أن حد القذف من حقوق الآدميين التي لا تسقط بالتوبة .
ولذلك لم يجعل قوله
إلا أن يصدقوا [ النساء : 92 ] . عائدا إلى الكفارة : لأنها من حقوق الله التي لا تسقط بالعفو وجعله عائدا إلى الدية لسقوطها بالعفو .
[