فصل : [ القسم الخامس : المحكم والمتشابه ] .
وأما القسم الخامس وهو المحكم والمتشابه :
فأصله قول الله تعالى :
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] . الآية .
واختلف أهل العلم في
المحكم والمتشابه على ثمانية أقوال :
أحدها : أن المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ وهذا قول
ابن عباس وابن مسعود .
والثاني : أن المحكم الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه القصص والأمثال وهو قول مأثور .
والثالث : أن المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه الذي تكررت ألفاظه وهذا قول
عبد الرحمن بن زيد .
والرابع : أن المحكم ما علم العلماء تأويله وفهموا معناه ، والمتشابه ما لم يكن
[ ص: 72 ] لهم إلى علمه سبيل ، مما استأثر الله تعالى بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول
عيسى ، وغيره ، وهذا قول
جابر .
والخامس : أن المحكم : ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه ، فلم تشتبه معانيه والمتشابه : ما اشتبهت معانيه ، وهذا قول
مجاهد .
والسادس : أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها ، وهذا قول
محمد بن جعفر بن الزبير .
والسابع : أن المحكم ما قام بنفسه ، ولم يحتج إلى استدلال ، والمتشابه ما لم يقم بنفسه واحتاج إلى استدلال ، وهو قول بعض المتكلمين .
والثامن : أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة كأعداد الصلوات ، واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان . وهذا محتمل .
وفي قوله
هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] . ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أراد الآي التي فيها الفرائض والحدود لأنها أكثر المقصود وهذا قول
يحيى بن يعمر .
والثاني : أنه أراد فواتح السور التي يستخرج منها القرآن وهذا قول
أبي فاختة .
والثالث : أراد أنه معقول المعاني : لأنه يتفرع عنه ما يشاركه في معناه فيصير الأصل لفروعه كالأم لحدوثها عنه فلذلك سماه أم الكتاب .
وهذا محتمل .
فأما الذين في قلوبهم زيغ [ آل عمران : 7 ] . فيه وجهان :
أحدهما : شك قاله
مجاهد .
والثاني : ميل .
فيتبعون ما تشابه منه فيه وجهان :
أحدهما : أنه الأجل الذي أرادت
اليهود أن تعرفه من الحروف المقطعة في القرآن من انقضاء مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - بحساب الجمل .
والثاني : أنه معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته .
ابتغاء الفتنة فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الشرك ، قاله
السدي .
[ ص: 73 ] والثاني : أنه اللبس قاله
مجاهد .
والثالث : أنه إفساد ذات البين .
وابتغاء تأويله فيه وجهان :
أحدهما : أن التأويل التفسير .
والثاني : أنه العاقبة المنتظرة .
وما يعلم تأويله إلا الله فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تأويل جميع المتشابه ، لأن فيه ما يعلمه الناس وفيه ما لا يعلمه إلا الله ، وهذا قول
الحسن .
والثاني : أن تأويله يوم القيامة ، لما فيه من الوعد والوعيد ، كما قال الله تعالى :
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله [ الأعراف : 53 ] . يعني يوم القيامة ، وهذا قول
ابن عباس .
والثالث : أن تأويله وقت حلوله ، وهذا قول بعض المتأخرين .
والراسخون في العلم فيه وجهان :
أحدهما : يعني الثابتين فيه ، والعاملين به .
والثاني : يعني المستنبطين له ، والعالمين به .
وفيهم وجهان :
أحدهما : أنهم داخلون في الاستثناء ؛ وتقديره : أن الذي يعلم تأويله الله والراسخون في العلم جميعا روى
مجاهد عن
ابن عباس قال : أنا ممن يعلم تأويله .
والثاني : أنهم خارجون من الاستثناء ويكون معنى الكلام : وما يعلم تأويله إلا
الله وحده ، ثم استأنف فقال :
والراسخون في العلم يقولون آمنا به .
كل من عند ربنا يحتمل وجهين :
أحدهما : علم ذلك عند ربنا .
والثاني : أن ما فصله الله من المحكم والمتشابه منزل من عند ربنا .
وإنما جعل الله تعالى كتابه محكما ومتشابها استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر ليتبين التفاضل ويستجزل الثواب
[ ص: 74 ] وقد روى
معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
القرآن على ثلاثة أجزاء : " حلال فاتبعه ، وحرام فاجتنبه ، ومتشابه يشكل عليك فكله إلى عالمه " .
وإذا وضح ما ذكرناه فما تضمنه كتاب الله تعالى من الأحكام والأعلام ينقسم أربعة أقسام :
أحدها : محكم في أحواله .
والثاني : متشابه في أحواله .
والثالث : متشابه في حال ومحكم في حال .
والرابع : محكم من وجه ومتشابه من وجه .
فأما القسم الأول وهو
المحكم في الأحوال فضربان : مفهوم ، ومعقول ، والفرق بينهما أن المفهوم ما لم يحتج إلى فكر ، والمعقول ما احتاج إلى فكر .
والمفهوم : ضربان :
أحدهما : ما فهم صريح لفظه كقوله تعالى في تحريم المناكح
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ النساء : 23 ] . الآية .
والثاني : ما فهم بمخرج خطابه مثل قوله في تحريم الخمر والقمار :
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ المائدة : 90 ] . فدل وضع الخطاب على تحريمه .
والمعقول : ضربان :
أحدهما : ما علم بالتنبيه كقوله :
وورثه أبواه فلأمه الثلث [ النساء : 11 ] . بثلث الأم على أن الباقي للأب .
والثاني : ما علم بالاستدلال : مثل تقدير أقل الحمل بستة أشهر بقوله
وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 14 ] . دل بقوله
حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [ البقرة : 233 ] . على أن الباقي من ثلاثين شهرا هو أقل مدة الحمل .
فهذه الضروب الأربعة ونظائرها محكمة غير متشابهة .
وأما القسم الثاني : وهو
المتشابه في الأحوال : فضربان :
أحدهما : ما تلوحت فيه إشارة يحتمل الاستدلال بها كقوله في الكلالة :
وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس [ النساء : 12 ] . فسأل
عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة . فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923595تكفيك آية الصيف " يعني قوله :
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ النساء : 176 ] . . . الآية
[ ص: 75 ] فسماها آية الصيف ، لأنها نزلت في الصيف فلم يزده في البيان عن الرد إلى الإشارة .
والضرب الثاني : ما تجرد عن إشارة كالحروف المفردة في القرآن مثل آلم و
كهيعص ، [ مريم : 1 ] .
حم عسق [ الشورى : 1 ] . فكانت على احتمال مشتبهة غير أن المراد في الضرب الأول خفي وفي هذا الضرب مبهم وكلاهما من المتشابه .
وأما القسم الثالث : وهو
المتشابه في حال والمحكم في حال : فضربان :
أحدهما : العموم إذا خص .
والثاني : المجمل إذا فسر ، هما قبل البيان من المتشابه ، وبعد البيان من المحكم .
وأما
القسم الرابع : وهو المحكم من وجه والمتشابه من وجه : فضربان :
أحدهما : أن يكون المتشابه في الموجب ، والمحكم في الواجب ، مثل قوله تعالى :
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " [ الأنعام : 151 ، الإسراء : 33 ] . فالحق هو السبب الموجب وهو من المتشابه ، وإباحة القتل هو الواجب وهو من المحكم .
والضرب الثاني : أن يكون المحكم في الموجب والمتشابه في الواجب كقوله تعالى :
وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] . والسبب الموجب هو استحصاد الزرع وهو من المحكم والحق المؤدى هو الواجب وهو من المتشابه .
فهذان الضربان ونظائرهما هو المحكم من وجه والمتشابه من وجه ثم على هذا الأصل تعتبر جميع النصوص .