[ القول فيما يقع به النسخ ] :
وأما
القسم الثاني : فيما يقع به النسخ : وهو أن يكون بمثل المنسوخ فينسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة .
قال الله تعالى :
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ البقرة : 106 ] .
وفي المراد بنسخها وجهان :
أحدهما : تبديلها قاله
ابن عباس .
والثاني : قبضها قاله
السدي .
وفي قوله " أو ننسها " وجهان :
أحدهما : نتركها فلا تنسخ قاله
ابن عباس .
والثاني : نؤخرها ومنه بيع النساء .
وفي هذا التأخير وجهان :
أحدهما : نؤخر نسخها .
والثاني : نؤخر نزولها .
وفي قوله
نأت بخير منها أو مثلها وجهان :
أحدهما : بخير منها في المنفعة إما بالتخفيف وإما بكثرة الثواب ، قاله
ابن عباس . والثاني : أنه على التقديم والتأخير ، ومعناه : نأت منها بخير قاله
أبو عبيد .
[ ص: 78 ] فإذا كان كذلك لم يجز
نسخ القرآن بالسنة كما صرح به
الشافعي ووافقه عليه أصحابه .
وإنما اختلفوا هل منع منه العقل أو الشرع ؟ على وجهين :
أحدهما : منع منه العقل ، لأنه يمنع من اعتراض المأمور على الأمر .
والوجه الثاني : بل منع منه الشرع دون العقل ، لأن التفويض إلى المأمور لا يمنع من مشاركة الأمر .
وجوز
أبو حنيفة نسخ القرآن بالسنة المستفيضة كما نسخت آية الوصايا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا وصية لوارث " .
ودليلنا قول الله تعالى :
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل [ النحل : 101 ] . وقوله :
قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ يونس : 15 ] .
وروى
سفيان بن عيينة عن
أبي الزبير عن
جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925494كلامي لا ينسخ كلام الله وكلام الله ينسخ كلامي " ، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا " وهذا نص رواه
الدارقطني .
والذي نسخ آية الوصايا هو آية المواريث فكانت السنة بيانا .
وأما نسخ السنة بالقرآن فالظاهر من مذهب
الشافعي وما نص عليه في كتاب الرسالة القديم والجديد أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة .
وقال
أبو العباس بن سريج : يجوز نسخ السنة بالقرآن وإن لم يجز نسخ القرآن بالسنة لأن القرآن أوكد من السنة وخرجه قولا ثانيا
للشافعي من كلام تأوله في الرسالة ، واستشهاده بأن الأمر أنفذ حكما من المأمور واستدلالا بأن الله تعالى نسخ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما عقده مع
قريش في
الحديبية على رد من أسلم منهم لما جاءت
nindex.php?page=showalam&ids=11720أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة وطلبها أخواها منعه الله من ردها ونسخ عليه حكمه بقوله
إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن [ الممتحنة : 10 ] . الآية إلى قوله
فلا ترجعوهن إلى الكفار
فدل هذا على جواز
نسخ السنة بالقرآن .
فاختلف أصحابنا في طريق الجواز والمنع في الشرع مع جوازه في العقل على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه لا توجد سنة إلا ولها في كتاب الله تعالى أصل كانت السنة فيه بيانا
[ ص: 79 ] لمجمله ، فإذا ورد الكتاب بنسخها كان نسخا لما في الكتاب من أصلها فصار ذلك نسخ الكتاب بالكتاب .
والوجه الثاني : أن الله تعالى يوحي إلى رسوله بما يخفيه عن أمته ، فإذا أراد نسخ ما سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلمه به حتى يظهر نسخه ثم يرد الكتاب بنسخه تأكيدا لنسخ رسوله فصار ذلك نسخ السنة بالسنة .
والوجه الثالث : أن نسخ السنة بالكتاب يكون أمرا من الله تعالى لرسوله بالنسخ فيكون الله تعالى هو الآمر به والرسول هو الناسخ له فصار ذلك نسخ السنة بالكتاب والسنة والله أعلم .