[ ص: 82 ] [ القول في دلائل النسخ ] :
وأما القسم السادس في
دلائل النسخ : وهو أن يرد في الشيء الواحد حكمان مختلفان :
فهما ضربان :
أحدهما : أن يمكن استعمالهما ولا يتنافى اجتماعهما ، فهو ضربان :
أحدهما : أن يكون أحدهما أعم من الآخر لعموم أحدهما وخصوص الآخر ، فيقضي بالأخص على الأعم فيستثنى منه كقوله تعالى
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] . وقال فيمن أباح نكاحهن :
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة : 5 ] . فقضى بهذه على تلك فصار كقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات إلا الكتابيات فكان عموما مخصوصا ولم يكن ناسخا ولا منسوخا .
والضرب الثاني : أن يتساوى الاثنان في جواز تخصيص كل واحدة منهما بالأخرى كقوله تعالى :
وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف [ النساء : 23 ] . وقوله
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ المؤمنون : 5 - 6 ] . فجاز أن يكون تحريم الجمع بين الأختين إلا بملك اليمين وجاز أن يكون أباحه بملك اليمين إلا الجمع بين الأختين فتكافأ في الجواز بخلاف الضرب المتقدم فوجب الرجوع إلى دليل يوجب تخصيص إحداهما بالأخرى ولذلك قال عثمان في الجمع بين الأختين : أحلتهما آية وحرمتهما أخرى والتحريم أولى ، فهذا فيما أمكن استعمال الحكمين المختلفين فيه . وأنه يحمل على التخصيص دون النسخ إلا أن يقوم دليل على النسخ ، فيعدل بالدليل عن استعمال التخصيص إلى النسخ كآية الوصايا وآية المواريث ، قد كان يمكن استعمالهما من غير نسخ لكن روي عن الصحابة أنهم قالوا نسخت آية المواريث آية الوصايا فعدل عن استعمال التخصيص إلى النسخ .
والضرب الثاني : أن يتنافى الحكمان لا يمكن استعمالهما فيعلم مع التنافي أن أحدهما ناسخ للآخر فيرجع إلى دلائل النسخ فيستدل بها على الناسخ والمنسوخ .
وهي خمس دلائل مترتبة يتقدم بعضها على بعض .
فأولها : أن يتقدم أحدهما ويتأخر الآخر فيعلم أن المتأخر ناسخ للمتقدم ، فإن قيل فقوله تعالى في العدة :
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة : 234 ] . ناسخ لقوله
متاعا إلى الحول غير إخراج [ البقرة : 240 ] . وهو غير متقدم عليه .
قيل هو متقدم عليه في التلاوة ومتأخر عنه في التنزيل وقد عدل بترتيب التلاوة عن ترتيب التنزيل بحسب ما أمر الله تعالى به للمصلحة التي استأثر الله تعالى بعلمهما
[ ص: 83 ] فقد قيل : إن آخر آية نزلت في القرآن قوله تعالى
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [ البقرة : 281 ] . وهي متقدمة في سورة البقرة . وأول ما نزل من القرآن سورة
اقرأ باسم ربك الذي خلق وهي متأخرة في المفصل . والنسخ إنما يتأخر ويختص بالمتأخر في التنزيل دون التلاوة .
وإن أشكل المتقدم والمتأخر وجاز أن يكون كل واحد متقدما أو متأخرا عدل إلى الدليل الثاني : وهو بيان الرسول : فإن ثبت عنه بيان الناسخ من المنسوخ عمل عليه وكانت السنة مبينة له ولم تكن ناسخة .
وإن عدم بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - عدل إلى الدليل الثالث وهو الإجماع فإن انعقد الإجماع على تعيين الناسخ والمنسوخ عمل عليه وكان الإجماع مبينا ولم يكن ناسخا . وإن عدم الإجماع عدل إلى الدليل الرابع وهو الاستعمال فإن كان أحدهما مستعملا والآخر متروكا كان المستعمل ناسخا والمتروك منسوخا .
فإن لم يوجد في الاستعمال بيان إما لاشتباهه أو لاشتراكه عدل إلى الدليل الخامس : وهو الترجيح بشواهد الأصول وتطلب الأدلة وكانت غاية العمل به .
وسمعت أن بعض أهل العلم يقول إن كل آية منسوخة ففي ضمن تلاوتها ما يدل على أن حكمها ليس بثابت على الإطلاق ، مثل قوله في سورة النساء في حد الزنا :
فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ النساء : 15 ] . دل قوله :
أو يجعل الله لهن سبيلا أن حكمها لا يدوم فنسختها آية النور في قوله :
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] . ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=924627خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " وهذا الذي ادعاه هذا القائل يبعد أن يوجد في كل آية منسوخة ، لكنه معتقد لمذهب
أبي حنيفة في أن الزيادة على النص تكون نسخا فيجعل ذلك في شواهد المنسوخ ، وليست الزيادة عندنا على النص نسخا .