[ القول في أخبار الآحاد ] .
وأما
أخبار الآحاد فهو ما أخبر الواحد والعدد القليل الذي يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب ، أو الاتفاق في السهو ، والغلط ، وهي على ثلاثة أضرب :
أحدها : أخبار المعاملات .
والثاني : أخبار الشهادات .
والثالث : أخبار السنن والديانات .
فأما
أخبار المعاملات : فلا تراعى فيها عدالة المخبر وإنما يراعى فيها سكون النفس إلى خبره فتقبل من كل بر وفاجر ومسلم وكافر وصغير وبالغ ، فإذا قال الواحد منهم هذه هدية فلان إليك جاز أن تعمل على قوله ، وفي الدخول لأنه في العرف مقبول وإنما لم تعتبر في هذا الخبر عدالة المخبر لأن العرف جاز باستنابة أهل البذلة فيه ، ومن خرج عن حد الصيانة وذلك مناف لشروط العدالة فلذلك سقط اعتبارها فيهم وهذا متفق عليه .
وأما
أخبار الشهادات فيعتبر فيها شرطان ورد الشرع بهما وانعقد الإجماع عليهما :
أحدهما : العدالة : لأن المنتدب لها أهل الصيانة فوجب أن تعتبر فيهم العدالة ليكونوا من أهل الصدق والصيانة .
والثاني : العدد بحسب ما ورد به الشرع : وأكثره أربعة في الزنا وأقله اثنان في الأموال فصارت الشهادة من هذين الوجهين أغلظ من أخبار المعاملات ، وإن كانا جميعا من أخبار الآحاد .
وأما أخبار السنن والعبادات فمختلف في قبول الآحاد فيها .
فمنع منها قوم
كالأصم وابن علية وعدلوا عنها إلى غيره من أدلة الشرع ، لأنها لا توجب العلم فلم توجب العمل ، ووقفها آخرون على ما يعضدها من الاتفاق على العمل بها .
وذهب جمهور الفقهاء إلى قبولها ووجوب العمل بها على ما نذكره في الشروط المعتبرة فيها ، لقول الله تعالى :
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة [ التوبة : 122 ] . الآية : فلو لم تلزم الحجة بالآحاد النافرة لأمر فيه بالتواتر والاستفاضة ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث
معاذا إلى
اليمن فنقل إليهم السنن وعلمهم العبادات ونصب الزكوات
[ ص: 87 ] وأوضح لهم الأحكام فالتزموها بخبره ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عصره ما عدلوا إليه فيها ولا طلبوا مع
معاذ زيادة عليه ، ولأنه لما سقط عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض الإبلاغ بذكر الآحاد لزم فيها
قبول أخبار الآحاد ، ولو لزم فيها العدد المتواتر لأداها إلى العدد المتواتر ، ولأنه لما جاز للمستفتي أن يعمل على فتيا المفتي جاز للمستخبر أن يعمل على رواية المخبر : لأنهما في أحكام الدين على سواء .
[ وجوب
العمل بخبر الواحد ] .
فإذا ثبت أن أخبار الآحاد حجة توجب العمل بها فقد اختلف القائلون بها . فذهب بعض أهل
العراق إلى أنها لا تقبل إلا من اثنين على اثنين حتى تتصل بالرسول كأقل الشهادات .
وذهب آخرون إلى أنها لا تقبل إلا من أربعة عن أربعة كأكثر الشهادات .
وذهب
الشافعي ، وجمهور الفقهاء إلى أن العدد فيها غير معتبر ، وأن خبر الواحد والجماعة في وجوب العمل بها واحد ، وقد عمل
أبو بكر على خبر الواحد في ميراث الجدة وأخذ الجزية من المجوس ، وعمل على خبر الواحد في دية الجنين فلم ينكر عليهما أحد مع انتشاره واشتهاره ولأن ما يجوز في الواحد من الاحتمال يجوز في الاثنين والأربعة ، وليس اعتبار أخبار السنن بالشهادة بأولى من اعتبارها بأخبار المعاملة ، لأنها واسطة بينهما فاعتبر فيها العدالة كالشهادة ، وقبل فيها خبر الواحد كالمعاملة .
[ القول في
خبر الواحد إذا عارضه أصل ] .
وإذا ثبت قبولها من الواحد والجماعة وجب العمل بما تضمنها ما لم يمنع منه العقل .
وامتنع
أبو حنيفة من العمل بها إذا خالفت الأصول ولذلك لم يعمل بخبر المصراة .
ومنع
مالك من العمل بها ، إذا خالفت عمل
أهل المدينة ، ولذلك لم يعمل على خيار المجلس في البيع وهو الراوي له .
وكلا القولين فاسد : لأن الخبر أصل فلم يجز أن يدفع بأصل ، وهو حجة على
أهل المدينة ، فلم يجز أن يدفع بعمل
أهل المدينة .
وإذا كان كذلك فهو وإن أوجب العمل فغير موجب للعلم الباطن بخلاف المستفيض والمتواتر .
[ ص: 88 ] واختلف أصحابنا هل يوجب العلم الظاهر ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يوجبه لأن ظاهر العلم من نتائج باطنه فلم يفترقا .
والوجه الثاني : يوجبه لأن سكون النفس إليه موجب له ولولاه لكان ظنا .