فصل : [ القول
فيما ينعقد به الإجماع ] :
وأما الفصل الثاني فيما ينعقد به الإجماع : فانعقاده معتبر بأربعة شروط :
أحدها : أن
يعتبر فيه قول الخاصة من أهل العلم دون العامة لقول الله تعالى :
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط [ آل عمران : 18 ] . فخص أهل العلم دون العامة بهذه المنزلة وكذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925522العلماء ورثة الأنبياء " وقد خالف
أبو طلحة الأنصاري الصحابة - رضي الله عنهم - في أن البرد لا يفطر الصائم ، لأنه ليس بطعام ولا شراب فردوا قوله ولم يعتدوا خلافه لأنه كان من عامة الصحابة ولم يكن من علمائهم .
والشرط الثاني :
أن يكون قول علماء الأمصار كلهم .
وقال
مالك : الإجماع معتبر
بأهل المدينة . ولا ينتقض إجماعهم ، بخلاف غيرهم ، لنزول الوحي فيهم ، وقبض الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم ، وانتشار العلم عنهم ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925523إن العلم ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " .
[ ص: 110 ] ولذلك لم يجعل خلاف
علي بن أبي طالب لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - بعد خروجه إلى
الكوفة في بيع أمهات الأولاد حتى قال على منبرها " اجتمع رأيي ورأي
أبي بكر وعمر على أن بيع أمهات الأولاد لا يجوز وقد رأيت أن بيعهن جائز " خلافا وجعل تحريم بيعهن إجماعا .
وهذا قول فاسد : لأن الأحكام مستنبطة من الكتاب والسنة لا من الأمكنة ، قال الله تعالى :
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 58 ] . ولم يأمر برده إلى
أهل المدينة ، فكان العلم بأهله لا بمكانه ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925500رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "
وقد روي أن
أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - خرج كل واحد منهما من
المدينة إلى
الشام في طلب حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتب
أهل المدينة إلى
عمرو بن حزم يسألونه عما عنده من دية الأسنان : ولأن مكة مهبط القرآن ومقام الرسول بها أكثر ، ولا يتميز أهلها في العلم ، فكان
أهل المدينة أحق .
والشرط الثالث :
أن لا يظهر من أحدهم خلاف فيه .
وإن تظاهر أحدهم بالخلاف فله حالتان :
أحدهما : أن يدفع خلافه نص فيكون خلافه مرتفعا والإجماع بغيره منعقدا كما خالف
عبد الله بن مسعود الصحابة في الفاتحة والمعوذتين ولم يجعلهن من القرآن فلم يعتدوا بخلافه لوجود النص وانعقد الإجماع على أنهن من القرآن وخالفهم
أبي بن كعب في القنوت المسمى بسورتي أبي حين جعلهما من القرآن فلم يعتدوا بخلافه وأجمعوا على أنهما ليستا من القرآن ، وكما ذهب
حذيفة بن اليمان إلى أن أول الصوم إسفار الصبح فلم يعتدوا بخلافه وأجمعوا على أنه من طلوع الفجر .
الحالة الثانية : أن لا يدفع قول المخالف نص فيكون خلافه مانعا من انعقاد الإجماع ، سواء كان من أكابر أهل العصر أو من أصغرهم سنا ، كما خالف
ابن عباس جميع الصحابة في العول فقال : " من شاء باهلته عند
الحجر الأسود " فصار خلافه خلافا ، والإجماع بخلافه مرتفعا .
وقال
أحمد بن حنبل : خلاف الواحد لا ينقض الإجماع ويكون محجوجا بمن عداه ، وهذا فاسد ، قد خالف
أبو بكر جميع الصحابة في قتال أهل الردة ثم بان أن الحق معه ، وقد قال تعالى :
يؤتي الحكمة من يشاء [ البقرة : 269 ] .
[ ص: 111 ] والشرط الرابع : أن ينتشر في جميع أهل العصر فيكونوا فيه بين معترف به أو راض به .
فإن انتشر فيهم وأمسكوا عنه من غير أن يظهر منهم اعتراف أو رضى فهو ضربان :
أحدهما : أن يكون في عصر الصحابة .
والثاني : أن يكون في غيره من الأعصار .
فإن كان ذلك في غير عصر الصحابة فلا يكون انتشار قول الواحد منهم مع إمساك غيره إجماعا ولا حجة ، لأنهم قد يعرضون عما لا يتعين فرضه عليهم .
وإن كان في عصر الصحابة الذي قد خصه الله بفضل أهله وقال - صلى الله عليه وسلم - "
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925524خير الناس قرني ثم من يليهم " .
فإذا قال الواحد منهم قولا أو حكم به فأمسك الباقون عنه ، فهذا على ضربين :
أحدهما : أن يكون فيما يفوت استدراكه ، كإراقة دم ، أو استباحة فرج ، فيكون إجماعا : لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه ، إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على إقرار منكر .
وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة لأن الحق لا يخرج عن غيرهم .
وفي كونه إجماعا يمنع من الاجتهاد وجهان لأصحابنا :
أحدهما : يكون إجماعا لا يسوغ معه الاجتهاد لأن عدم الخلاف مع الانتشار يمنع من إثبات الخلاف .
والوجه الثاني : لا يكون إجماعا والاجتهاد معه جائز : لأن من نسب إلى ساكت قولا أو اعتقادا فقد افترى عليه ، وسواء كان هذا القول حكما أو فتيا .
وفرق
أبو علي بن أبي هريرة بينهما فجعله إجماعا إن كان فتيا ، ولم يجعله إجماعا إن كان حكما لجواز الاعتراض على المفتي . وترك الاعتراض على الحاكم لما فيه من شق العصا .
وعكسه غيره من أصحابنا فجعله إجماعا إن كان حكما ولم يجعله إجماعا إن كان فتيا : لأن الحكم في الأغلب يكون عن المشاورة وفي الفتيا عن استبداد .
وكلا الفرقين فاسد لاشتراك الحكم والفتيا في وجوب الاجتهاد .
وأما إن لم ينتشر قول الواحد من الصحابة في جميعهم ولم يؤثر فيه خلاف من أحدهم فلا يكون ذلك القول إجماعا ، لأنهم ما عرفوه ، فيرضوا به أو ينكروه .
[ ص: 112 ] فأما
كونه حجة تلزم العمل بها فمعتبر بما يوافقه من قياس أو يخالفه .
وله أربعة أحوال :
أحدها : أن يكون القياس موافقا لقول الصحابي فيكون قول الصحابي حجة بالقياس .
والحالة الثانية : أن يكون القياس مخالفا لقول الصحابي فالعمل بالقياس الجلي أولى من قول الصحابي إذا تجرد عن قياس جلي أو خفي .
والحالة الثالثة : أن يكون مع قول الصحابي قياس جلي ويخالفه قياس خفي فقول الصحابي مع القياس الجلي أولى .
والحالة الرابعة : أن يكون مع قول الصحابي قياس خفي ويخالفه قياس جلي :
فمذهب
الشافعي في القديم : أن قول الصحابي مع القياس الخفي أولى وألزم من القياس الجلي لأن الصحابة أهدى إلى الحق .
ثم رجع عنه في الجديد وجعل القياس الجلي أولى بالعمل من قول الصحابي مع القياس الخفي لأنهم قد كانوا يتحاجون بالقياس حتى قال
ابن عباس : " ألا لا يتقي الله
زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا " ، وإذا لزمهم العمل بالقياس كان لغيرهم ألزم .