[
من يجوز له الاجتهاد ] :
فأما الفصل الأول : فيمن يجوز له الاجتهاد فضربان :
أحدهما : مجتهد في عموم الأحكام .
والثاني : مجتهد في مخصوص منها .
المجتهد في جميع الأحكام :
فأما
المجتهد في جميع الأحكام ، فالمعتبر في جواز اجتهاده أربعة شروط :
أحدها :
إشرافه على نصوص الكتاب والسنة فإن قصر في أحدها لم يجز أن يجتهد .
والثاني :
علمه بوجوه النصوص في العموم والخصوص والمفسر والمجمل [ ص: 119 ] والمقيد والمطلق على ما قدمناه من قبل فإن قصر فيها لم يجز أن يجتهد .
والثالث :
الفطنة والذكاء ليصلا به إلى معرفة المسكوت عنه من أمارات المنطوق به
فإن قلت : فيه الفطنة والذكاء لم يصح منه الاجتهاد .
والرابع :
أن يكون عارفا بلسان العرب وموضوع خطابهم ومعاني كلامهم . لأن الكتاب والسنة وهما أصل الشريعة وردا بلسان العرب .
أما الكتاب مع ظهور لسانهم فيه فقد قال الله تعالى :
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين
" إلى قوله
بلسان عربي مبين [ الشعراء : 192 : 195 ] .
ولم يقل هذا على وجه الإخبار به ، لأنه مشاهد .
والمراد به يحتمل أمرين .
أحدهما : أن لا ينقل إلى غيره من ألسنة الأمم المختلفة إبطالا لمن جوز ذاك فيه .
والثاني : أنه ليس فيه من ألفاظ العجم شيء وإن اتفق لسان العرب والعجم في بعض الألفاظ ، إبطالا لقول من زعم أن في القرآن ألفاظا أعجمية كالسندس ، والإستبرق ، والقسطاس .
وأما السنة في ورودها بلسان العرب فلقول الله تعالى :
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه [ إبراهيم : 4 ] . ولأن العرب أول من أنذر بالقرآن ودعوا إلى الإسلام وكلفوا الفروض والأحكام .
فإن قيل : فقد كان من تقدم من الأنبياء مبعوثا إلى قومه خاصة فجاز أن يكون مبعوثا بلسانهم
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى جميع الأمم فلم صار مبعوثا بلسان بعضهم ؟ قيل لا تخلو رسالته إليهم من أن تكون بجميع ألسنتهم وهذا خارج عن العرف المستطاع أن يرد كل فرض في القرآن مكررا بكل لسان .
وإذا خرج عن هذا ووجب أن يكون بأحد الألسن كان لسان العرب به أحق لثلاثة أمور :
أحدها : أنهم أول المخاطبين به .
والثاني : أن لسانهم أوسع وكلامهم أفصح .
والثالث : لفضل المتبوع على التابع ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عربي النسب والدار واللسان وهو أفضل متبوع فكان لسانه متبوعا أولى من أن يكون تابعا .
[ ص: 120 ] وإذا كان كذلك كان معرفة لسان العرب فرضا على كل مسلم من مجتهد وغير مجتهد .
إلا أن غير المجتهد يلزمه من فرضه ما اختص بتكليفه من الشهادتين وما تتضمن الصلاة من القراءة والأذكار ولا يلزمه معرفة ما عداه إلا بحسب ما يتدرج إليه في نوازله وأحكامه .
قال
الشافعي " على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده في أداء فرضه كما عليه أن يتعلم الصلاة والأذكار " .
وأسقط
أبو حنيفة معرفة لسان العرب في حقوق المكلفين ، لأنه يبيح القراءة والأذكار بغير العربية .
فأما المجتهد فيلزمه في حقوق الاجتهاد أن يكون عارفا بلسان العرب .
فإن قيل : فلسان العرب لا يحيط بعلم جميعه واحد من العرب فكيف يلزم المجتهد أن يكون محيطا بلسان العرب .
قيل : لسان العرب وإن لم يحط به واحد من العرب فإنه يحيط به جميع العرب ، والذي يلزم في حق المجتهد أن يكون محيطا بأكثره ليرجع فيما عزب عنه إلى غيره ، إن جميع السنة لا يحيط بها واحد من العلماء وإنما يحيط بها جميع العلماء .
وإذا كان المجتهد محيطا بأكثرها صح اجتهاده ليرجع فيما عزب عنه إلى من علم به .
فإذا تكاملت هذه الشروط الأربعة في المجتهد صح اجتهاده .
فإن
قصد بالاجتهاد العلم صح اجتهاده ، ولم تكن العدالة شرطا فيه .
وإن
قصد به الحكم أو الفتيا كانت العدالة شرطا في نفوذ حكمه وقبول فتياه وإن لم تكن شرطا في صحة اجتهاده .
[
المجتهد في حكم خاص ] :
وأما المجتهد في حكم خاص فصحة اجتهاده معتبرة بما يجتهد فيه .
فإن كان اجتهاده في القبلة إذا خفيت عليه كان الشرط في صحة اجتهاده صحة البصر ومعرفة دلائل القبلة .
وإن كان اجتهاده في العدالة والجرح كانت صحة اجتهاده معتبرة بأسباب الجرح والتعديل وما يراعي من غلبة أحدهما على الآخر في الصغائر وتغليب الحكم في الكبائر .
[ ص: 121 ] وإن كان اجتهاده في المثل من جزاء الصيد كانت صحة اجتهاده فيه معتبرة بمعرفة الأشباه في ذي المثل ومعرفة القيمة في غير ذي المثل ثم على هذه العبرة فيما عداه .