فصل : فإذا استقر ما ذكرناه من شروط الاجتهاد المعتبرة في المجتهد تعلق به فصلان :
أحدهما : جواز اجتهاد الأنبياء .
والثاني : جواز الاجتهاد في زمان الأنبياء .
[ جواز
اجتهاد الأنبياء ] :
فأما اجتهاد الأنبياء فقد اختلف فيه أهل العلم .
فذهب بعض الأئمة إلى أنه لا يجوز للأنبياء أن يجتهدوا ولا لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد لقدرتهم على النص بنزول الوحي عليهم وقد قال الله تعالى :
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] . ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقف في إحرامه ولم يجتهد حتى نزل عليه القضاء وتوقف في اللعان حتى نزل عليه القرآن . وتوقف في ميراث الخالة والعمة حتى نزل عليه
جبريل بأن لا ميراث لهما . ولو ساغ له الاجتهاد لسارع إليه ولم يتوقف .
وذهب جمهور أهل العلم وهو الظاهر من مذهب
الشافعي أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء أن يجتهدوا لقوله تعالى
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 78 - 79 ] . ولو لم يكن اجتهاد الأنبياء سائغا وكان جميع أحكامهم نصا لما أخطأ
داود ولا أصاب
سليمان . ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اجتهد في أسرى
بدر وفيمن اشترط رده في صلح
الحديبية .
فأما توقفه في اللعان وفي ميراث الخالة والعمة فليعلم هل ينزل عليه نص فلا يجتهد أو يتأخر عنه فيجتهد ، ولأن جواز الاجتهاد فضيلة فلم يجز أن يدفع عنها الأنبياء وإنما الوحي بحسب الأصلح .
فإذا صح اجتهاده فقد اختلفت أصحابنا في وجوبه وجوازه على وجهين :
أحدهما : أنه جائز ، وليس بواجب ، لأن للأحكام أصلا هو الكتاب .
والوجه الثاني : أنه واجب عليه ، لأن الأحكام مأخوذة من سنته إذا خلا الكتاب منها .
وعندي أن الأصح من إطلاق هذين الوجهين أن يكون اجتهاده واجبا عليه في حقوق الآدميين ، وجائزا له في حقوق الله تعالى ، لأنهم لا يصلون إلى حقوقهم إلا باجتهاده ، فلزمه وإن أراد الله تعالى منه الاجتهاد في حقوقه أمره .
[ ص: 122 ] ثم إذا اجتهد فقد اختلف أصحابنا
هل يستبيح الاجتهاد برأيه أو يرجع فيه إلى دلائل الكتاب ؟ على وجهين :
أحدهما : أنه يرجع في اجتهاده إلى الكتاب ، لأنه أعلم بمعاني ما خفي منه من جميع أمته ، فكان اجتهاده بيانا وإيضاحا .
والوجه الثاني : وهو أظهر أنه يجوز أن يجتهد برأيه ولا يرجع إلى أصل من الكتاب ، لأن سنته أصل في الشرع مثل الكتاب قد ندب الله تعالى إليها ، فقال :
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "
إنما أجتهد رأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء " .
واختلف أصحاب
الشافعي في
عصمة اجتهاد الأنبياء من الخطأ على وجهين :
أحدهما : أنهم معصومون في اجتهادهم من الخطأ لتسكن النفس إلى التزام أوامرهم بانتفاء الخطأ عن اجتهادهم .
وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه أنهم لا يجتهدون إلا عن دليل من نص .
والوجه الثاني : أنهم غير معصومين من الخطأ فيه لوجوده منهم لكن لا يقرهم الله تعالى عليه ليزول الارتياب به وإن جاز أن يكون غيرهم من العلماء مقرا عليه ، لأن
داود قد أخطأ في اجتهاده فاستدركه الله بإصابة
سليمان ، واجتهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسرى
بدر بعد مشاورة
أبى بكر وعمر ، وأخذ منهم الفداء فأنكره الله تعالى عليه بقوله :
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض [ الأنفال : 67 ] .
وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه إنهم يجوز أن يجتهدوا بالرأي من غير استدلال بنص .
وذهب
ابن أبي هريرة إلى أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - معصوم الاجتهاد من الخطأ دون غيره من الأنبياء ، لأنه لا نبي بعده يستدرك خطأه لانختام النبوة به وغيره من الأنبياء قد بعث بعده من يستدرك خطأه .
وهذا القول لا وجه له ، لأن جميع الأنبياء غير مقرين على الخطأ في وقت التنفيذ ولا يمهلون فيه على التراخي حتى يستدركه نبي بعد نبي فاستوى فيه جميع الأنبياء .
فهذا حكم اجتهادهم في أحكام الدين .
فأما أمور الدنيا فيجوز على الأنبياء فيها الخطأ والسهو روي "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925527أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع ضجة بالمدينة فقال : ما هذا ؟ قيل : إنهم يلقحون النخل . فقال : وما ينفع ذلك أنهم لو تركوه لم يضرهم فبلغهم ذلك فتركوه فقل حمل النخل فقال عليه السلام : ما كان من أمر دينكم فردوه إلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به " .