فصل : [
الاستنباط ] .
وأما الاستنباط : وهو المقدمة الثانية من مقدمتي القياس فهو من نتائج الاجتهاد فكان فرعا له وأصلا للقياس : لأن الوصول إلى استنباط المعاني تلو الاجتهاد في الدلائل ، وصحة القياس تكون بعد استنباط المعاني ، فلذلك صار الاستنباط فرعا للاجتهاد وأصلا للقياس .
والاستنباط مختص باستخراج المعاني من ألفاظ النصوص ، مأخوذ من استنباط الماء الذي استخرج من معدنه ، ومنه سمي النبط لاستنباطهم الماء بالاستخراج له من معادنه .
وقد جعل الله تعالى للأحكام أعلاما هي أسماء ومعان .
فالأسماء ألفاظ ظاهرة تعرف بالبديهة .
والمعاني علل باطنة تعرف بالاستنباط .
فيكون الحكم بالاسم مقصورا عليه وبالمعنى متعديا عنه ، فصار معنى الاسم أحق بالحكم من الاسم ، لعموم المعنى بالتعدي ، وخصوص الاسم بالوقوف .
ولئن كانت المعاني تابعة للأسماء ، لأنها مستودعة فيها فالأسماء تابعة لمعانيها
[ ص: 131 ] لتعديها إلى غيرها ، فإن توزعنا في تعليق الأحكام بالمعاني كان يدل عليه في إثبات القياس كافيا .
وإذا كان كذلك وجب أن يستنبط معاني الأحكام بالاجتهاد ليعلم بالقياس حكم ما لم يرد فيه نص من معاني ما ورد فيه النص ، فما وجد فيه معنى النص شاركه في حكمه قياسا ، وما عدم فيه معنى النص خالفه في حكمه عكسا فيكون القياس موجبا لحكم الإثبات في الطرد وحكم النفي في العكس .
ومن أصحابنا من جعله موجبا لحكم الطرد في الإثبات ولم يجعله موجبا لحكم العكس في النفي ، وهو قول من اعتبر صحة العلة بالطرد دون العكس وذاك قول من اعتبر صحتها بالطرد والعكس .
والفرق بين المعاني والعلل : أن المعنى ما وجب به الحكم في الأصل حتى تعدى إلى الفرع . والعلة اجتذاب حكم الأصل إلى الفرع . فصار المعنى ما ثبت به حكم الأصل ، والعلة ما ثبت بها حكم الفرع . ثم هما بعد هذا الفرق يجتمعان من وجهين ويفترقان من وجهين :
فأما الوجهان في الاجتماع .
فأحدهما : أن حكم الأصل موجود في المعنى والعلة .
والثاني : أن المعنى والعلة موجودان في الأصل والفرع .
وأما الوجهان في الافتراق .
فأحدهما : أن العلة مستنبطة من المعنى وليس المعنى مستنبطا من العلة لتقدم المعنى وحدوث العلة .
والثاني : أن العلة قد تشتمل على معان والمعاني لا تشتمل على علل ، لأن الطعم والجنس معنيان وهما علة الربا .
وقد ألف الفقهاء أن يعبروا عن المعنى بالعلة وعن العلة بالمعنى ولا يوقعوا بينهما فرقا إما اتساعا وإما استرسالا .
والتحقيق فيهما ما ذكرناه من الفرق بينهما .
فإذا تقررت هذه الجملة وجب على المجتهد في استنباط المعاني والعلل أربعة شروط تعتبر بها صحتهما ثم تختص العلل دون المعاني بشرطين مختلف فيهما .
[
شروط صحة المعاني والعلل ] :
فأما الشروط الأربعة المعتبرة في صحتهما :
[ ص: 132 ] فأحدها :
أن يكون المعنى مؤثرا في الحكم ، فإن لم يؤثر لم يجز أن يكون معنى للحكم ولا علة له ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرجم
ماعزا لاسمه ولا لهيئة جسمه ، ولكن رجمه للزنا فصار الزنا علة الرجم ، كما أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا في البر ليس لأنه مزروع ولكن لأنه مطعوم فكان الطعم علة الربا دون الزرع .
والشرط الثاني :
أن يسلم المعنى والعلة على الأصول ولا يردهما نص ولا إجماع : لأن القياس فرع لهما يستعمل عند عدمهما فلم يجز أن يكون رافعا لهما ، فإذا رده أحدهما بطل .
والشرط الثالث :
أن لا يعارضهما من المعاني والعلل ما هو أقوى منهما فإن الأقوى أحق بالحكم من الأضعف كما أن النص أحق بالحكم من القياس ، وما أدى إلى إبطال الأقوى فهو الباطل بالأقوى .
والشرط الرابع :
أن يطرد المعنى والعلة فيوجد الحكم بوجودهما فيسلما من نقض أو كسر .
فإن عارضهما نقض أو كسر فعدم الحكم مع وجودهما فسد المعنى وبطلت العلة ، لأن فساد العلة يرفعها ، وفساد المعنى لا يرفعه ، لأن المعنى لازم والعلة طارئة : لأن الكيل إذا بطل أن يكون علة الربا في البر لم يبطل أن يكون الكيل باقيا في البر فيصير التعليل باطلا والمعنى باقيا .
ولا يجوز تخصيص المعاني والعلل المستنبطة ليسلم من النقض المعترض ويكون دخول النقض عليهما بارتفاع الحكم مع وجودهما دليلا على فسادها .
فأما العلل المنصوص عليها فقد اختلف أصحابنا في جواز تخصيصها على وجهين :
أحدهما : لا يجوز تخصيصها اعتبارا بالعلل المستنبطة .
والوجه الثاني : يجوز تخصيصها : لأنها لفظ منطوق به فجرى مجرى تخصيص العموم ، كما علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنع من بيع التمر بالرطب : لأنه ينقص إذا يبس ، وجوز بيع التمر بالرطب في العرايا وإن نقص إذا يبس .
وحكي عن
أبي حنيفة : أنه جوز تخصيص العلل المستنبطة والمنصوص عليها ولا يفسرها بمعارضة النقض ، لخروجه منها بالتخصيص ، استدلالا بأنه لما جاز تخصيص العموم كان تخصيص العلل أولى : لأنها قد تستنبط من عموم مخصوص هي له فرع وهو لها أصل . وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أنه لما كان سلامة الطرد معتبرا في العلل العقلية وجب أن يكون معتبرا
[ ص: 133 ] في العلل الشرعية ، لأن أحكام الشرع لا تخرج عن قضية العقل .
والثاني : أن العلة إذا عارضها نقض لم يكن التعليل بالمنتقض أولى من التعليل بالناقض : فتعارضا بهذه المقابلة ، فوجب العدول عنها إلى ما لا تعارض فيه .
فإذا تكاملت هذه الشروط الأربعة في المعاني والعلل المستنبطة صحت المعاني بها .
وكان صحة التعليل بعدها مختلفا فيه لاختلاف أصحابنا في شرطين هل يعتبران في تصحيح العلل أم لا ؟ :
أحد الشرطين :
عكس العلة هل يكون معتبرا في صحتهما كما اعتبر في صحتها الطرد ؟ وفيه وجهان :
أحدهما : وهو قول
أبي علي بن أبي هريرة وطائفة معه : أنه لا يعتبر فيها صحة العكس ، وأنه إذا ثبت الحكم بوجودها صحت وإن لم يرتفع بعدمها ، لأن المقصد بها إثبات الحكم دون نفيه وكما يصح المعنى إذا طرد ولم ينعكس .
والوجه الثاني : أن صحة العكس معتبر فيها ، فإذا ثبت الحكم بوجودها ولم يرتفع بعدمها فسدت العلة ، وإن لم يفسد المعنى : لأن علل الشرع معتبرة بعلل العقل في الطرد والعكس ، ولأن عدم التأثير في ارتفاعها يدل على عدم التأثير في وجودها ، ويكون الفرق بين المعنى والعلة في اعتبار العكس ما قدمناه من الفرق .
والشرط الثاني : المختلف فيه
وقوف العلة على حكم النص وعدم تأثيرها فيما عداه ، كوقوف علة الربا في الذهب والفضة عليهما تعليلا بأنهما أثمان وقيمة وهو معنى لثبوت الربا فيهما .
واختلف أصحابنا هل تكون علة لثبوت الربا فيهما ؟ على وجهين :
أحدهما : وهو قول
أبي بكر القفال وأشار إليه في أصوله : لا تكون علة : لأن العلة ما جذبت حكم الأصل إلى فروعه ، ويجعل ثبوت الربا في الذهب والفضة بالاسم دون المعنى .
والوجه الثاني : وهو قول الجمهور أنها علة وإن لم تتعد عن حكم الأصل ، لأن وقوفها يوجب نفي حكم الأصل عن غيره وكما أوجب تعديها ثبوت حكم الأصل في غيره فصار وقوفها مؤثرا في النفي كما كان تعديها مؤثرا في الإثبات فاستفيد بوقوفها وتعديها حكم غير الأصل . فعلى هذا يكون ثبوت الربا في الذهب والفضة بالمعنى دون الاسم .
فصارت صحة المعاني معتبرة بأربعة شروط ، وفي صحة العلل وجهان :
[ ص: 134 ] أحدهما : تعتبر صحتها بأربعة شروط كالمعاني .
والوجه الثاني : تعتبر صحتها بستة شروط لما قدمناه من فرق بين المعاني والعلل .