فصل : [
إثبات العلة بالاستنباط وطرق الاستدلال ] .
فإذا تقرر ما ذكرنا من الشروط المعتبرة في صحة المعاني والعلل وجب على المستنبط أن يعتبر بها حكم الأصل في الكشف عن معانيه .
فإن لم يجد فيها ما يؤثر في الحكم كأعداد الركعات ونصب الزكوات علم أن معانيه غير معقولة وأن الحكم فيها مقصور على النص ومعتبر بالاسم .
وإن وجد في معنى الأصل ما يكون مؤثرا في الحكم سير جميع معانيه ولم يقتصر على المعنى الأول لجواز أن يكون بعده ما هو أقوى منه ليكون حكم الأصل معتبرا بأقوى معانيه .
وإذا كان كذلك لم تخل معاني الحكم في الأصل من أن يكون الحكم متعلقا بجميعها أو ببعضها : -
فإن تعلق الحكم بجميع معاني الأصل كالربا في الذهب والفضة فهي العلة الواقفة ، وهل يكون ثبوت الحكم في الأصل بالمعنى أو بالاسم ؟ على ما ذكرنا من الوجهين :
وإن تعلق الحكم ببعض معانيه فهو على ضربين :
أحدهما : أن يصح تعليق الحكم بأحد معانيه .
والثاني : أن لا يصح .
فإن صح تعليق الحكم بأحدها فهو على ضربين :
أحدهما : أن يسلم من معارضته بمعنى آخر ، فيكون الحكم ثابتا بذلك المعنى ، ويصير المعنى في الأصل علة في حكم الفرع .
والضرب الثاني : أن تتعارض معاني الأصل في جواز إثبات الحكم بكل واحد منهما فهذا على ضربين :
أحدهما : أن تتفق أحكامها في الفروع فيوجب كل واحد منهما مثل ما يوجبه غيره فيكون المستنبط مخيرا بين تعليق الحكم بأيها شاء كما يجوز أن يثبت حكم الأصل بأي دلالة شاء .
والضرب الثاني : أن تختلف أحكام المعاني في الفروع ، فيوجب كل واحد منهما غير ما يوجبه الآخر ، كتعليل الربا في البر بأنه مقتات ، وبأنه مأكول ، وبأنه مكيل ،
[ ص: 135 ] ولكل واحد من هذه المعاني فروع يجتذبها ليست في غيره .
فهذا على ضربين :
أحدهما : أن يكون أحدها داخلا في الآخر ، فيكون الحكم معتبرا بالمعنى الأعم دون الأخص ، كتعليل الربا في البر بأنه مقتات ، وتعليله بأنه مأكول ، والقوت يدخل في المأكول ، فكان تعليله بالأكل أولى من تعليله بالقوت ، لعموم الأكل وخصوص القوت .
والضرب الثاني : أن لا يدخل أحدهما في الثاني : كالتعليل بالأكل والتعليل بالكيل فهو على ضربين :
أحدهما : أن يكون أحد المعنيين أكثر فروعا من الآخر فيكون أكثرهما فروعا أولى وتعليل الحكم به أحق لكثرة بيانه بكثرة فروعه .
والضرب الثاني : أن تتقارب فروعهما ، فهو على ضربين :
أحدهما : أن تكون شواهد أكثر الأصول مع أحدهما وشواهد أقلها مع الآخر فيكون أكثرهما شواهد أولى ، وتعليل الحكم به أحق ، لقوته بكثرة شواهده .
والضرب الثاني : أن تتساوى شواهد الأصول لكل واحد منهما ولا يترجح أحدهما على الآخر بشيء ، فيتعلق حكم الأصل بكل واحد من المعنيين ، ويكون اجتماعهما معا علة في فروع الأصل ، لقوة العلة باجتماعهما واستيعابهما لفروعهما .
فأما إذا لم يصح تعليق حكم الأصل بأحد معانيه لدخول الكسر عليه وجب أن يضم إليه معنى آخر من معاني الأصل فيجمع فيه بين معنيين .
فإن سلما بالاجتماع من كسر يدخل عليهما صارا جميعا معنى الحكم في الأصل وعلة الحكم في الفرع .
وإن لم يسلم المعنيان من كسر ضممت إليهما معنى ثالثا .
فإن سلمت المعاني الثلاثة صار جميعها معنى الحكم في الأصل وعلة الحكم في الفرع .
وإن لم تسلم الثلاثة من كسر ضممت إليها رابعا .
فإن لم تسلم ضممت إليها خامسا كذلك أبدا حتى تجمع بين معاني الأصل فيتبين باجتماع معانيه وقوف حكمه وعدم تعديه .
ومنع
أبو حنيفة من تعليق الحكم بما لم تتعد معانيه وأبطل به العلة الواقفة .
[ ص: 136 ] وحصر بعض أصحابه معاني العلة ومنع من تعليق الحكم بأكثر من أربعة أوصاف ، وفيما قدمناه بيان وبرهان .
فأما إن تعارض التعليق بمعنيين أحدهما منصوص عليه والآخر مستنبط كان معنى النص أولى من معنى الاستنباط كما يكون الحكم بالنص أولى من الحكم بالاجتهاد . وذلك مثل تعليل مال الفيء قال تعالى :
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ الحشر : 7 ] . وتعليل تحريم الخمر بقوله :
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [ المائدة : 91 ] . الآية وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=922995إنما نهيتكم لأجل الدافة " وكما علل بيع التمر بالرطب بأن قال حين سئل عنه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925534أينقص إذا يبس قيل : نعم قال : فلا إذن " .
فهذا التعليل كله عن نصوص لا يجوز أن تدفع بعلل مستنبطة .