فصل :
القياس الخفي :
وأما القياس الخفي : فهو ما خفي معناه فلم يعرف إلا بالاستدلال ويكون معناه في الفرع مساويا لمعنى الأصل .
وهو على ثلاثة أضرب :
أحدها : ما كان معناه لائحا .
والثاني : ما كان معناه غامضا .
والثالث : ما كان معناه مشتبها .
فأما الضرب الأول : وهو
ما كان معناه لائحا يعرف باستدلال متفق عليه فمثل قوله تعالى :
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم [ النساء : 23 ] . فكانت عمات الآباء والأمهات في التحريم قياسا على العمات . وخالات الآباء والأمهات في التحريم قياسا على الخالات . لاشتراكهن في الرحم ، ومثله قوله تعالى في نفقة الولد في صغره :
فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن [ الطلاق : 6 ] . فكانت نفقة الوالد عند عجزه في كبره قياسا على نفقة الولد لعجزه بصغره .
والمعنى في هذا الضرب لائح لتردده بين الجلي والخفي وهو من ضروب الخفي بمنزلة الأول من ضروب الجلي
ويجوز أن ينعقد الإجماع بمثله وينقض به حكم الحاكم إذا خالفه .
وفي جواز تخصيص العموم به وجهان :
والضرب الثاني :
وهو ما كان معناه غامضا للاستدلال المختلف فيه فتقابلت [ ص: 148 ] معانيه حتى غمضت مثاله تعليل الربا في البر المنصوص عليه ، فتقابل فيه التعليل بالأكل ، ليقاس عليه كل مأكول ، والتعليل بالقوت ، ليقاس عليه كل مقتات ، والتعليل بالكيل ليقاس عليه كل مكيل ، ومثله النهي عن بيع الطعام حتى يقبض ، تقابل فيه التعليل بالطعم ، حتى يقاس عليه كل مطعوم ، والتعليل بالنقل ، ليقاس عليه كل منقول ، والتعليل بالبيع ليقاس عليه كل مبيع .
فصار المعنى باختلافهم فيه غامضا والاستدلال به مترجحا .
ومثل هذا الضرب لا ينعقد به إجماع ولا ينقض به حكم ولا يخص به عموم .
وأما الضرب الثالث : وهو ما كان مشتبها ، فهو ما احتاج نصه ومعناه إلى استدلال : كالذي قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : أن الخراج بالضمان فعرف الاستدلال : أن الخراج هو المنفعة وأن الضمان هو ضمان البيع ، ثم عرف معنى المنفعة بالاستدلال فتقابلت المعاني بالاختلاف فيها فمن معلل لها بأنها آثار . فلم يجعل المشتري إذا رد بالعيب مالكا للأعيان من الثمار والنتاج ، ومن معلل لها بأنها ما خالفت أجناس أصولها ، فجعله مالكا للثمار ولم يجعله مالكا للنتاج ، وعللها
الشافعي بأنها نماء ، فجعله مالكا لكل نماء من ثمار ونتاج .
فمثل هذا الضرب ينعقد الإجماع في حكم أصله ولا ينعقد في معناه ، ولا ينقض بقياسه حكم ، ولا يخص به عموم ، وهو أضعف مما تقدمه ، وإن قاربه في حكمه والله أعلم .