فصل : والشرط السادس
أن يكون عالما بالأحكام الشرعية : وعلمه بها يشتمل على أمرين أحدهما : علمه بما قدمناه من أصولها التي يستنبط بها أحكامها .
والثاني : معرفته بفروعها فيما انعقد عليه الإجماع ، أو حصل فيه اختلاف ليتبع الإجماع ، ويجتهد في الاختلاف : ليصير بذلك من أهل الاجتهاد في الدين ، فيجوز أن يفتي ويقضي ، فيجوز أن يستفتي ويستقضي .
فإن
كان عاميا من غير أهل الاجتهاد لم يجز أن يفتي ولا يقضي ، وكانت ولايته باطلة وحكمه وإن وافق الحق مردودا .
وجوز أصحاب
أبي حنيفة تقليد العامي القاضي ليستفتي في أحكامه العلماء .
استدلالا بأنه إذا جاز أن يحكم في الاستفتاء في حق نفسه جاز أن يحكم به في حق غيره لأنهما معا حكم بعلم .
قالوا ولأن من جاز أن يكون شاهدا جاز أن يكون قاضيا كالعالم .
قالوا : ولأنه لما جاز أن يحكم بشهادة الشاهدين مع الجهل بما توصلا به إلى صحة الشهادة ، ويحكم بقيمة المقومين مع الجهل بما توصلا به إلى صحة القيمة ، جاز أن يحكم بفتيا المفتي مع الجهل بما توصل به إلى صحة الحكم .
ودليلنا قول الله تعالى :
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ الزمر : 9 ] . والدليل فيها من وجهين :
أحدهما : أنه منع من المساواة فكان على عمومه في الحكم وغيره .
والثاني : أنه قاله زجرا فصار أمرا .
[ ص: 160 ] وروى
سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار ، فالذي في الجنة رجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحكم فجار عنه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار فهذا يدل على دخول العامي في الوعيد لأنه قضى على جهل .
فإن قيل : فإذا استفتى لم يقض على جهل وإنما يقضي بعلم . فعنه جوابان :
أحدهما : أن المقلد ليس يعلم أنه قضى بعلم .
والثاني : أنه جاهل بطريق العلم ، وإن علم فلم يخرج في الجوابين أن يكون قاضيا بجهل .
ومن القياس أن من لم يجز أن يكون مفتيا لم يجز أن يكون قاضيا كالفاسق .
ثم الحكم أغلظ لأن الحاكم ملزم والمفتي غير ملزم .
ولأن من لم يكن من أهل الاجتهاد لم ينفذ حكمه ، كغير المستفتي .
ولأنه حكم يلتزمه غير ملزمه فلم يصح من غير المجتهدين كالفتاوى .
فأما الجواب عن استدلالهم بالعامي المستفتي في حق نفسه فمن وجهين :
أحدهما : أن العامي مضطر والحاكم غير مضطر .
والثاني : أن العامي يلتزمه في حق نفسه والحاكم يوجبه على غيره .
وأما الجواب عن استدلالهم بالشهادة كالعالم فمن وجهين :
أحدهما : أنه لما روعي في الشهادة آلتها : وهو في التحمل العقل والبصر والسمع وفي الأداء العقل واللسان ، وجب أن يراعى في الحكم آلته : وهو الاجتهاد فصارت الشهادة لنا دليلا .
والثاني : في معنى الأصل أن العالم لما جاز أن يفتي جاز أن يحكم ، والعامي لم يجز أن يفتي لم يجز أن يحكم .
وأما الجواب عن استدلالهم بطريق الشهادة والتقويم ، فمن وجهين :
أحدهما : أنه لم ينصب له على صدق الشاهدين والمقومين دليل فجاز له تقليدهم وقد نصب له على الأحكام دليل فلم يجز تقليده فيها .
والثاني : أنه لما لم يلزم المفتي معرفة طريق الشهادة والتقويم لم يلزم الحاكم ولما لزم المفتي معرفة طريق الأحكام لزم الحاكم .