الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
إبطال الاستحسان

مسألة : قال الشافعي : ولا يجوز له أن يستحسن بغير قياس ولو جاز ذلك لجاز أن يشرع في الدين .

قال الماوردي : أما الاستحسان فيما أوجبته أدلة الأصول واقترن به استحسان العقول فهو حجة متفق عليها يلزم العمل بها .

فأما استحسان العقول إذا لم يوافق أدلة الأصول فليس بحجة في أحكام الشرع .

والعمل بدلائل الأصول الشرعية أوجب وهي أحسن في العقول من الانفراد عنها .

وقال أبو حنيفة : الاستحسان في الشرع حجة توجب الأحكام الشرعية .

واختلف أصحابه في بيان مذهبه فيه :

فقال بعضهم : هو العمل بأقوى القياسين .

وهذا مما نوافقه عليه : لأنه الأحسن .

وقال بعضهم : هو القول بتخصيص العلة كما خص خروج الجص والنورة من علة الربا وإن كان مكيلا .

وهذا أصل نخالفه فيه : وللكلام عليه موضع غير هذا .

وقال بعضهم : أن يترك أقوى القياسين بأضعفهما إذا كان حسنا ، كالشهادة على الزنا في الزوايا .

وهذا نخالفه فيه : لأن أقوى القياسين عندنا أحسن من أضعفهما .

وقال بعضهم : هو ما غلب في الظن وحسن في العقل من غير دليل ولا أصل وإن دفعه من دلائل الشرع أصل .

هذا هو أفسد الأقاويل كلها .

أدلة القائلين بالاستحسان .

واستدلوا على العمل بالاستحسان في الجملة بقوله تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ الزمر : 18 ] .

وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن

[ ص: 164 ] قالوا ولأن المسلمين قد أجمعوا على أحكام عدلوا عن الأصول فيها إلى الاستحسان ، منها دخول الواحد إلى الحمام ، يستعمل ماء غير مقدر ، ويقعد فيه زمانا غير مقدر ، ويعطي عنه عوضا غير مقدر ، ويشرب من الساقي ماء غير مقدر ويعطي عنه عوضا غير مقدر ، ويشتري المأكول بالمساومة من غير عقد يتلفظ فيه ببدل وقبول ، وهذا مخالف للأصول ، وقد عمل المسلمون به استحسانا فدل على أن الاستحسان حجة وإن لم يقترن بحجة .

والدليل على فساد الاحتجاج بمجرد الاستحسان قول الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ النساء : 59 ] . فجعل الأحسن في التنازع ما كان مأخوذا عن أوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكفى بالتنازع قبحا أن يكون مأخوذا من غيرهما .

وقال الله تعالى : لعلمه الذين يستنبطونه [ النساء : 83 ] . فنفى العلم عن غير المستنبط . والاستنباط هو البناء على معاني الأصول دون الظن والاستحسان .

ولأن في الظن والاستحسان اتباعا لهوى ، وقد قال الله تعالى : ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص : 26 ] .

ولأنه لا يخلو أن يكون الحكم مجمعا عليه أو مختلفا فيه .

فإن كان مجمعا عليه ، وجب اتباع الإجماع فيه .

وإن كان مختلفا فيه فالله تعالى يقول : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ الشورى : 10 ] . ولم يقل إلى الاستحسان ولأن الاستحسان بالدليل يوجب الاتفاق عليه .

والاستحسان بغير دليل يوقع الاختلاف فيه لاختلاف الآراء والله تعالى يقول : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] . فدل على أن الاستحسان من عند غير الله لوقوع الاختلاف فيه .

ولأنه لو كان الاستحسان بالعقل مغنيا في أحكام الشرع عن أصول الشرع لاستغنى بعقله عن الأمر والنهي ولجاز له أن يشرع في الدين بعقله من غير شرع ، والله تعالى يقول : أيحسب الإنسان أن يترك سدى [ القيامة : 36 ] . يعني : غير مأمور ولا منهي .

ولأن القياس أقوى من الاستحسان لجواز تخصيص العموم بالقياس دون الاستحسان فلم يجز أن يقدم عليه الاستحسان .

[ ص: 165 ] ولأنه لو كان الاستحسان دليلا لجاز أن يجعله في ترك الاستحسان دليلا فيؤول إثباته إلى إبطاله .

الجواب على أدلة القائلين به .

فأما الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ الزمر : 18 ] . فمن ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه أمره باتباع الأحسن دون المستحسن والأحسن ما كان في نفسه حسنا والمستحسن ما استحسنه الغير وإن لم يكن حسنا فافترقا ، ولزم اتباع الأحسن دون المستحسن .

والجواب الثاني : أنه وارد فيما جاء به الكتاب من ثواب الطاعات وعقاب المعاصي فيتبعون الأحسن من فعل الطاعة واجتناب المعصية .

والجواب الثالث : أنه محمول على ما جعل له من استيفاء الحق ، وندب إليه من العفو ، كما قال تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان [ البقرة : 178 ] . فجعل له القصاص وندب فيه إلى العفو فكان العفو أحسن من القصاص .

فأما الجواب عن قوله : " ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن عند الله " فمن وجهين :

أحدهما : أنه موقوف على ابن مسعود فلم يكن فيه حجة .

والثاني : أنه لا يخلو مراده من أحد أمرين :

إما أن يريد ما رآه جميع المسلمين حسنا فهو الإجماع ونحن نقول به .

أو يريد ما رآه بعضهم حسنا فليس بعضهم الذي استحسنه بأولى من البعض الذي استقبحه وهذا يتعارض فصار محمولا على الإجماع دون الاختلاف .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن الإجماع منعقد على استحسان ما خالف الأصول فيما ذكروه من الأمثلة فمن وجهين :

أحدهما : أن الإجماع على هذا انعقد فصرنا إليه بالإجماع لا بالاستحسان .

والثاني : أن ما تراضى به الناس في معاملاتهم وتسامحوا به في عرفهم لم يعارضوا فيه ما لم يفض إلى الربا واستباحة الفروج ، ولو تحاكموا إلينا فيه لحملناه على موجب الأصول .

فإن قيل : فقد أنكر الشافعي الاستحسان ، وقال به في مسائل :

[ ص: 166 ] منها : أنه قال في المتعة " واستحسن بقدر ثلاثين درهما " وقال في الشفعة : " إنه يؤجل ثلاثا وذلك استحسان مني وليس بأصل " وقال في أيمان الحكام : وقد رأيت بعض الحكام يحلف بالمصحف ، وذلك عندي حسن " وقال في الأذان : " حسن أن يضع إصبعيه في صماخي أذنيه " .

قيل : لم يقل الشافعي ذلك بمجرد الاستحسان ، وإنما قاله لدليل اقترن به :

أما استحسانه المتعة بقدر ثلاثين درهما فلأن ابن عمر قاله ، ومذهبه في القديم :

أن الصحابي إذا انفرد بقول لم يظهر خلافه فهو حجة .

وأما استحسانه الشفعة أن يؤجل ثلاثا فلأن الناس قد أجمعوا على تأجيله في قريب الزمان في مبيته بقية ليلته وإمهاله لزمان أكله وشربه ولباسه فجعل القريب مقدرا بثلاثة أيام ، لقوله تعالى تمتعوا في داركم ثلاثة أيام [ هود : 65 ] . فجعلها حدا للقرب .

وأما استحسانه للحاكم أن يحلف بالمصحف فلأن الأيمان قد تغلظ في كثير الأموال فجاز أن تغلظ بالمصحف الموجب للكفارة لما فيه من فضل الخوف والتحرج .

وأما استحسانه أن يضع إصبعيه في صماخي أذنيه فلأن بلالا كان يفعله بمشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه أمد لصوته .

فلم يخل ما استحسنه من دليل اقترن به .

والاستحسان بالدليل معمول عليه وإنما ننكر العمل بالاستحسان إذا لم يقترن به دليل

التالي السابق


الخدمات العلمية