إذا
نسي الحاكم حكمه وشهد به شاهدان .
مسألة : قال
الشافعي : " ولو شهد عنده شهود أنه حكم بحكم فلا يبطله ولا يحقه إذا لم يذكره " .
قال
الماوردي : وصورتها في خصمين حضرا مجلس القاضي فادعى أحدهما على صاحبه حقا ، وأنكره الآخر . فذكر المدعي للقاضي أنه قد ثبت حقي عليه عندك وحكمت لي به .
فإن ذكر القاضي ذلك وعلمه ، حكم على الخصم به ، سواء قيل إن للقاضي أن يحكم بعلمه أو لا : لأنه ليس هذا منه استئنافا لحكم ، وإنما هو إمضاء وإلزام لما تقدم من حكمه .
[ ص: 208 ] وإن لم يذكر القاضي ذلك وأحضره المدعي خطه ، فقد ذكرنا أنه لا يجوز أن يحكم بخطه إذا لم يذكره .
فإن
أحضر المدعي شهودا يشهدون عنده بما ثبت من حقه على خصمه فلذلك ضربان :
أحدهما : أن يشهد الشهود عنده أن المدعى عليه أقر عنده لهذا المدعي بكذا ، سمع القاضي هذه الشهادة ، لأنها شهادة على إقرار المدعى عليه ، وليست بشهادة على حكم القاضي ، وهذا متفق عليه .
والضرب الثاني : أن يشهد الشهود عنده أنه حكم لهذا المدعي على خصمه بكذا لثبوت ذلك عنده بما ذكره من إقرار أو بينة ، فيشهدون عنده بحكمه فقد اختلف الفقهاء فيه .
فمذهب
الشافعي أنه لا يجوز للقاضي أن يسمع البينة على حكم نفسه وبها قال
أبو يوسف .
وقال
أبو حنيفة ومحمد وهو مذهب
ابن أبي ليلى :
ويجوز للقاضي أن يسمع البينة على حكم نفسه كما يسمعها على حكم غيره .
استدلالا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع قول
ذي اليدين أنه سلم من ركعتين ، واستشهد
أبا بكر وعمر على ما قاله
ذو اليدين فصدقاه ، فلم يمتنع من قبول شهادتهما على فعل نفسه ، فكان من عداه من الحكام بقبول الشهادة أحق .
ولأنه إجماع الصحابة ، لما رواه
حميد ، عن
أنس قال : بعث
أبو موسى الأشعري بالهرمزان إلى
عمر رضي الله عنه ، حين نزل على حكمه ، فلما قدم
الهرمزان عليه سكت ، فقال له
عمر : تكلم ، فقال : أكلام حي أم كلام ميت ؟ فقال له
عمر : تكلم فلا بأس عليك ، فقال : " نحن وأنتم معاشر العرب حيث خلا الله بيننا وبينكم كنا نستعبدكم فلما كان الله معكم فليس لنا بكم يدان ، فأمر
عمر بقتله له ، فقال له
أنس : كيف تقتله وقد قلت له لا بأس عليك ؟ فقال
عمر لأنس : " من يشهد معك ؟ " فشهد معه
الزبير ، فقبل شهادتهما ، وأطلقه آمنا ، وفرض له في العطاء ، وكان هذا بمشهد من أعيان الصحابة ، فلم ينكر أحد منهم على
عمر سماعه للشهادة على قوله ، فدل على إجماعهم على جوازه .
وقد أجاز المسلمون مثل ذلك في روايات السنن المشروعة : روى
ربيعة ، عن
سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن
أبي هريرة "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925503أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد " ونسي
سهيل الحديث ، فقال له
ربيعة : أنت حدثتني فكان
سهيل يقول :
[ ص: 209 ] حدثني
ربيعة عني عن
أبي هريرة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925503أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد " فإذا جاز أن يرجع إلى غيره فيما رواه جاز أن يرجع إليه فيما حكم به . ولأنه كما جاز أن يسمع الشهادة على حكم غيره جاز أن يسمعها على حكم نفسه .
ودليلنا : قول الله تعالى :
بل الإنسان على نفسه بصيرة [ القيامة : 14 ] .
فوكله في فعله إلى نفسه ، ولم يكله إلى غيره .
ولأنه لما لم يجز أن يعمل على شهادة غيره : أنه قد صلى حتى يعلم ذلك من نفسه وحقوق الله تعالى أوسع حكما من حقوق العباد ، كان بأن لا يسمع الشهادة على حكمه لغيره وعلى غيره أولى ، ولأن الشهادة أخف من الحكم ، لما في الحكم من الإلزام الذي لا تتضمنه الشهادة .
ثم ثبت أن الشاهد إذا نسي شهادته فشهد بها عنده لم يجز أن يعمل على الشهادة فيما يشهد به : فكان الحكم بذلك أولى .
وأما الجواب عن قصة
ذي اليدين فمن وجهين :
أحدهما : أنه تذكر بقولهم فعمل على ذكره .
والثاني : أن قولهم أحدث له شكا ، والشك في الصلاة يوجب العمل فيها على اليقين وبهما يجاب عن قصة
الهرمزان .
وأما الجواب عن رواية الأخبار ، فلسعة حكمها جاز فيها ما لم يجز في غيرها .
وأما الجواب عن سماع غيره للشهادة ، فهو أن غيره يعمل على غلبة الظن ، فجاز أن يعمل على الشهادة بغلبة الظن ، وهو يعمل في فعل نفسه على اليقين ، فلم يجز أن يعمل بغلبة الظن في الشهادة حتى يقطع بيقين نفسه .