فصل : وأما القسم الثالث وهو أن
يحكم لحاضر على غائب بحق غائب .
فإن كان الغائب وقت الحكم حاضرا ثم غاب فهو حكم على حاضر لحاضر .
وإن كان غائبا عند الحكم عليه نفذ حكمه إن كان يرى جواز القضاء على الغائب ، ولم ينفذ إن لم يره .
فإن كتب وهو لا يرى القضاء على الغائب بسماع البينة على الغائب ولم يذكر الحكم بها ، نظر ، فإن ذكر الشهادة ولم يذكر ثبوت الحق بالشهادة ؛ جاز أن يكتب بذلك ، ويكون القاضي المكتوب إليه هو الحاكم بها ، ويكون كتاب القاضي كالشهادة على الشهادة .
وإن ذكر ثبوت ذلك عنده بالشهادة ففي كون الثبوت حكما ؛ وجهان :
أحدهما : قاله
أبو حامد الإسفرايني : يكون حكما ، فعلى هذا لا يجوز أن يكتب به .
والوجه الثاني : وهو أصح عندي ، أنه لا يكون حكما : لأن الحكم هو الإلزام وليس في الثبوت إلزام ، وهو في ثبوت الحق كالإقرار .
أقسام الحق المحكوم به .
فإذا نفذ كتاب القاضي بذلك على ما فصلناه ، فالحق المحكوم به على أربعة أضرب :
[ ص: 217 ] أحدهما : أن يكون الحق في ذمة المحكوم عليه .
والثاني : أن يكون في بدنه .
والثالث : أن يكون عينا منقولة في يده .
والرابع : أن يكون عينا منقولة في بلده .
فأما الضرب الأول : وهو أن يكون الحق في ذمته : فيستوفي منه إن أيسر ، وينظر به إن أعسر .
وأما الضرب الثاني : وهو أن يكون الحق على بدنه ، فإن كان لآدمي كالقصاص وحد القذف استوفاه المكتوب إليه .
وقال
أبو حنيفة : لا يجوز أن تستوفى حدود الأبدان بكتب القضاة وإن كانت من حقوق الآدميين لتغليظها .
وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أنها لما لم تسقط بالشبهة صارت كالأموال .
والثاني : أنها لما جازت فيها الشهادة على الشهادة حكم فيها بكتب القضاة .
فأما ما كان من حقوق الله تعالى كحد الزنا ففي جواز استيفائه بكتاب إلى القاضي قولان لجواز استيفائه بالشهادة على الشهادة :
أحدهما : يستوفى كحقوق الآدميين .
والقول الثاني : لا يستوفى : لأن حقوق الله تعالى تدرأ بالشبهات .
والضرب الثالث : وهو أن يكون الحق عينا في يده غير منقولة كالضياع والعقار ، فالحكم على الغائب لا يكون إلا ببينة .
فإن ثبت عنده عدالة شهودها حكم بثبوتها ، وجاز أن يكتب بها إلى قاضي البلد الذي فيه الملك المستحق ، دون قاضي البلد الذي فيه المحكوم عليه إن كان في غيره . وإن لم تثبت عنده عدالة الشهود وهم غرباء ، وذكر الطالب أن له بينة بتزكيتهم بقيمها عند قاضي بلدهم فللشهود ثلاثة أحوال :
أحدهما : أن يكونوا من أهل البلد الذي فيه الملك وهم على العود إليه ، فلا تسمع شهادتهم وإن سمعها لم يكتب بها ، وقال للطالب اذهب مع شهودك إلى قاضي بلدهم وبلد
مالك ليشهدوا عنده بما شهدوا به عندي ، فإن كتب القضاء مختصة بما لا
[ ص: 218 ] يمكن ثبوته بغيرها ، وثبوت هذا بالشهادة ممكن ، فلم يحكم فيه بالمكاتبة ، كالشهادة على الشهادة ، لا يحكم بها مع القدرة على شهود الأصل .
والحال الثانية : أن يكون الشهود من البلد الذي فيه الملك ، ولا يريدون العود إليه ، والبينة بتعديلهم فيه ، فيجوز أن يكتب القاضي بشهادتهم عنده إلى قاضي البلد الذي فيه الملك بما شهدوا به ، ليكشف عن عدالتهم ، فإذا صحت عنده حكم بشهادتهم ، فيصير التعديل والحكم مختصا بالقاضي المكتوب إليه ، ويكون كتاب القاضي الأول مقصورا على نقل الشهادة ، ولا وجه لمكاتبة الثاني الأول بالتعديل ليتولى الأول الحكم : لأن الثاني قادر على تنفيذ الحكم فلم يحتج فيه إلى الأول .
والحال الثالثة : أن يكون الشهود من غير البلد الذي فيه الملك ، فيجوز للقاضي بعد سماع شهادتهم أن يكتب إلى قاضي بلدهم ، ويسأله عن عدالتهم ، فإن عرفها كتب بها إلى القاضي الأول ، ليتولى الحكم بشهادتهم ، ويكون الثاني حاكما بعدالتهم .
ولا يجوز أن يقبل كتاب الثاني إلا بشهادة ؛ لأن كتاب الأول استخبار ، وكتاب الثاني حكم .
وأما الضرب الرابع : وهو أن يكون عينا منقولة في يد المطلوب ، كالعبد والدابة والثوب .
فإذا أحضر الطالب البينة بعد ادعائه في يد المطلوب بغصب أو عارية ، وحلاه الشهود بحليته ونعتوه باسمه وجنسه وصفته ففي الحكم بشهادتهم على ما ينقل من الأعيان الغائبة قولان :
أحدهما : وهو المنصوص عليه ، وحكاه
الشافعي عن
أبي حنيفة ،
ومحمد ، واختاره
المزني ، أنه لا يجوز الحكم بها فيما ينقل من الأعيان الغائبة حتى يشير الشهود إليها بالتعيين .
وهذا أصح القولين ، وهو المعمول عليه : لأن الصفات تتشابه ، والحلى تتماثل ، فلم يجز الحكم بها مع الاحتمال حتى يزول بالتعيين ويكون الحكم بالشهادة على الأعيان الغائبة مقصورا على ما لا ينقل لتعيينه بحدوده وموضعه دون ما ينقل للإشكال فيه .
والقول الثاني : وحكاه
الشافعي ، عن غيره ، وأضافه كثير من أصحابنا إليه ، أنه يجوز الحكم بالشهادة على الأعيان الغائبة ، وإن كانت منقولة كما يجوز الحكم بها في غير المنقولة ، لما يجب من حفظ الحقوق على أهلها .
وخرج
ابن سريج من هذين القولين وجها ثالثا ، فقال : إن كان هذا العبد المدعي في عينه يختص بوصف يندر وجوده في غيره كشامة في موضع من جسده أو إصبع
[ ص: 219 ] زائدة في موضع من يده أو كان مشهورا من عبيد السلطان لا يشركه غيره في اسمه ومنزلته وصفته ، جاز الحكم بشهادتهم مع غيبته ، وإن شابه عموم الناس في صفته ونعته لم يحكم فيه بالشهادة إلا مع التعيين والإشارة ، وأجرى ذلك مجرى الأنساب فيمن غاب إذا رفعت ، حتى تراخت وزال الاشتراك فيها حكم فيها بالشهادة وإن قربت حتى اشتبه الاشتراك فيها ، لم يحكم بالشهادة إلا مع التعيين .
ولهذا التخريج وجه ، لكنه نادر ، وإطلاق القول يكون على الأعم الأغلب .
فإذا قيل بالقول الأول أن الحكم بها لا يجوز إلا مع التعيين ، ففي جواز سماعها والمكاتبة بها قولان :
أحدهما : لا يسمع القاضي الشهادة بها : لأنها تراد للحكم ، فإذا لم يتعلق بها حكم لم تسمع ذكره في أدب القاضي
والقول الثاني : نص عليه في كتاب الدعوى : يجوز أن يسمع القاضي الشهادة بها ويكتب به إلى قاضي البلد الذي فيه العبد المطلوب ، فإذا وصل الكتاب إليه ، لم يحكم بالعبد إلا أن يعينه الشهود .
قال
الشافعي : ويستفاد بهذه الشهادة ، وإن لم يقع الحكم بها إلا مع التعيين من الجهتين ، أن لا يتكلف الثاني الكشف عن عدالتهم ، ولا يتكلف الشهود إعادة شهادتهم ، وإنما يقتصرون على الإشارة بالتعيين ، فيقولون : هذا هو العبد الذي شهدنا به لفلان عند القاضي فلان .
ويستفاد بها عندي فائدة ثالثة : أن يموت العباد فيستحق بهذه الشهادة على المطلوب ذي اليد قيمته على نعته وصفته .
وإذا قيل بالقول الثاني ، أن الحكم بهذه الشهادة مع عدم التعيين جائز ، أحضر القاضي المكتوب إليه العبد وصاحب اليد وقال له : هذا العبد هو المنعوت بهذه الصفة . فإن اعترف بها ، حكم عليه بتسليم العبد إلى طالبه .
وإن أنكر أن يكون هو الموصوف المحكوم به ، فقد اختلف القائلون بهذا القول فيما يحكم به على قولين :
أحدهما : حكاه
الشافعي عن
ابن أبي ليلى ، وهو قول
أبي يوسف : أن القاضي يختم في عنق العبد ، ويسلمه إلى الطالب المشهود له ، مضمونا عليه ، ويأخذ منه كفيلا ، وينفذه إلى القاضي الأول ، ليحضر الشهود لتعيينه .
فإن عينوه ، وأنه العبد الذي شهدوا به للطالب ، حكم به له وكتب إلى القاضي الثاني باستحقاق الطالب ، وبراءة الكفيل من ضمانه .
[ ص: 220 ] وإن لم يشهدوا به للمطلوب بعينه ألزمه رده على من كان في يده ، وأخذه بنفقة عوده وضمان نفسه إن تلف .
ولو كان بدل هذا العبد أمة ، فقد اختلف من قال بهذا في إجرائها مجرى العبد :
فمنع
أبو يوسف من تسليمها : لأنها ذا فرج ، وربما كانت أم ولد لصاحب اليد ، وجعل هذا الحكم مقصورا على العبد .
وسوى
ابن أبي ليلى بين العبد والأمة أن تضم إلى أمين ثقة يحتاط به حذرا من التعرض لإصابتها .
قال
الشافعي عند حكاية هذا القول عن
ابن أبي ليلى : وهو استحسان ، وليس بقياس .
وأخذ بهذا القول من أصحابنا
أبو سعيد الإصطخري مذهبا لنفسه .
ولا يصح تخريجه على مذهب
الشافعي : لأنه يترك الاستحسان بالقياس ، وقد جعله استحسانا .
والقول الثاني : من مذاهب القائلين بجواز الحكم به ، حكاه
الشافعي عن بعض الحكام : أن ينادي القاضي على العبد فيمن يزيد ، فإذا انتهى ثمنه ، قال لمدعيه : ادفع ثمنه يكون موضوعا على يد عدل ، وخذ العبد معك ، فإن عينه شهودك حكم به القاضي لك ، وكتب برد الثمن عليك ، وإن لم يعينوه لك ، لزمك رده ، واسترجاع ثمنه .
وهذا القول إن أجاب إليه الطالب جاز العمل عليه ، وإن لم يجب إليه لم يجبر عليه
والأصح عندي من هذا كله أن يقبل القاضي الثاني الكتاب ، وبحكم بوجوب ما تضمنه ، من العبد الموصوف فيه ، ويخير صاحب اليد في العبد بين ثلاثة أحوال : بين أن يسلمه بالصفة المشهود بها إلى طالبه فينبرم الحكم بها ، وبين أن يمضي بالعبد مع طالبه ، على احتياط من هربه إلى القاضي الأول ، فإن عينه الشهود ، سلمه إلى الطالب بحكمه ، وإن لم يعينه الشهود ، خلى سبيل العبد مع صاحب اليد ، وبين أن يعدل بالطالب إلى دفع القيمة للعبد الموصوف دون العبد الذي في يده . فأي هذه الثلاثة فعل صاحب اليد فقد خرج من حق الطالب وإن امتنع من جميعها ، وقد ثبت استحقاق العبد الموصوف لم يجز أن يسقط شهادة عدول ثبتت بمثلهم الحقوق ، وأخذه القاضي الثاني جبرا بدفع قيمة العبد الموصوف : لأنه قد صار بالاشتباه غير مقدور عليه جرى مجرى العبد المغصوب أو الآبق لزم دفع قيمته كذلك ، هذا ولا يجبره على تسليم
[ ص: 221 ] العبد ، لما ذكرنا من الاشتباه ، ولا يجبره على السفر بالعبد إلى القاضي الأول : لأنه لا إجبار عليه في السفر بماله ولا على المحاكمة إلى غير قاضي بلده ، والله أعلم بصوابه .