فصل : والقسم الثالث
آداب القضاة مع الخصوم أن يبدأ بالنظر بين من سبق من الخصوم ، ولا يقدم مسبوقا إلا باختيار السابق ، ويجمع بين الخصمين في دخولهما عليه ، ولا يستدعي أحدهما قبل صاحبه ، فتظهر به ممايلة المتقدم ، وتضعف فيه نفس المتأخر ، بل يسوي في المدخل بين الشريف والمشروف ، والحر والعبد ، والكافر والمسلم .
فإذا دخلا عليه سوى بينهما ، في لحظه ولفظه إن أقبل كان إقباله عليهما ، وإن أعرض كان إعراضه عنهما ، ولا يجوز أن يقبل على أحدهما ، ويعرض على الآخر ، وإن تكلم كان كلامه لهما ، وإن أمسك كان إمساكه عنهما ، ولا يجوز أن يكلم أحدهما ويمسك عن الآخر ، وإن اختلفا في الدين والحرية لئلا يصير ممايلا لأحدهما .
ولا يسمع الدعوى منهما وهما قائمان ، حتى يجلسا بين يديه ، تجاه وجهه ، روى
عبد الله بن الزبير قال : "
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي " وينبغي أن يكون مجلس الخصوم عند القاضي أبعد من مجالس غيرهم ، ليتميز به الخصوم من غيرهم .
ويسوي في المجلس بين الشريف والمشروف ، وبين الحر والعبد ، كما سوى بينهما في الدخول .
[ ص: 276 ] وفي
التسوية بين المسلم والكافر في المجلس وجهان :
أحدهما : يسوي بينهما فيه ، كما سوى بينهما في المدخل والكلام .
والوجه الثاني : يقدم المسلم في الجلوس على الكافر لما روي أن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه اختصم مع يهودي وجد معه درعا ضاعت منه يوم الجمل إلى
شريح ، فلما دخلا عليه ، قام
شريح عن مجلسه ، حتى جلس فيه
علي وجلس شريح واليهودي بين يديه فقال
علي : لولا أن خصمي ذمي لجلست معه بين يديك لكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "
لا تساووهم في المجالس " .
ولولا ضعف في إسناد هذا الحديث لقدم المسلم على الذمي وجها واحدا ، ولكلا الوجهين مع ضعفه وجه .
فإن
اختلف جلوس الخصمين بين يديه ، فتقدم أحدهما على صاحبه ، كان القاضي بالخيار بين أن يؤخر المتقدم ، أو يقدم المتأخر .
والأولى أن ينظر : فإن كان المتقدم قد جلس في مجلس الخصوم ، وتأخر عنه الآخر ، قدمه إليه ، وإن كان المتأخر قد جلس في مجلس الخصوم ، وتقدم عليه الآخر أخره إليه ، حتى يساويا فيه .
وقد روي أن
عمر بن الخطاب وأبي بن كعب تقاضيا إلى
زيد بن ثابت في محاكمة بينهما ، فقصداه في داره فقال
زيد لعمر : لو أرسلت إلي لجئتك ، فقال
عمر : في بيته يؤتى الحكم فأخذ
زيد وسادته ليجلس عليها
عمر فقال
عمر : هذا أول جورك ، سو بيننا في المجلس فجلسا بين يديه ، ونظر بينهما فتوجهت اليمين على
عمر فقال زيد
لأبي : لو عفوت أمير المؤمنين عن اليمين ؟ فقال
عمر : ما يدري
زيد ما القضاء ، وما على
عمر أن يحلف أن هذه أرض وهذه سماء .
ومن
عادة جلوس الخصوم ، أن يجلسوا في التحاكم بروكا على الركب ؛ لأنه عادة العرب في التنازع ، وعرف الحكام في الأحكام .
فإن كان التخاصم بين النساء ، جلسن متربعات ، بخلاف الرجال ، لأنه أستر لهن .
وإن كان بين رجل وامرأة ، برك الرجل وتربعت المرأة ، لأنه عرف لجنسها فلم يصر تفضيلا لها .
[ ص: 277 ] والأولى بالقاضي أن لا يشرك بين الرجال والنساء في مجلس النظر ، ويجعل للنساء وقتا ، وللرجال وقتا .
ولا يحضر تخاصم النساء من الرجال من يستغني عن حضوره .
وقد اختير للحاكم عند تحاكم النساء أن يكون الواقف بين يديه لترتيب الخصوم خصيا .
وإن كان
التحاكم بين رجل وامرأة ، فالأولى أن لا ينظر بينهما عند تحاكم الرجال ، لأجل المرأة ، ولا ينظر بينهما ، عند تحاكم النساء لأجل الرجل ، ويجعل لهما وقتا غير هذين .
وإذا جلس الخصمان تقاربا إلا أن يكون أحدهما رجلا والآخر امرأة ليست بذات محرم فيتباعدا ولا يتلاصقا ، وأبعد ما يكون من بين الخصمين أن يسمع كل واحد منهما كلام صاحبه .
وعلى القاضي أن يسمع كلام الخصمين من غير ضجر ، ولا انتهار ، لأن ضجره عليهما مسقط لما عليه من حقهما ، وانتهاره لهما مضعف لنفوسهما ، إلا أن يكون منهما لغط فينتهرهما ، أو ينتهر اللاغط منهما .
فإن أمسكا عن الكلام بعد جلوسهما ، قال القاضي : يتكلم من شاء منكما ، والأولى أن يقوله القائم بين يديه : لأنه أحفظ لحشمته .
فإن تنازعا في الكلام كفهما عن التنازع ، حتى يتفقا على المبتدئ منهما .
فإن أقاما على التنازع ويبتدئ بالكلام من قرع .
والوجه الثاني : يصرفهما حتى يتفقا على المبتدئ .