الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : والقسم الثالث آداب القضاة مع الخصوم أن يبدأ بالنظر بين من سبق من الخصوم ، ولا يقدم مسبوقا إلا باختيار السابق ، ويجمع بين الخصمين في دخولهما عليه ، ولا يستدعي أحدهما قبل صاحبه ، فتظهر به ممايلة المتقدم ، وتضعف فيه نفس المتأخر ، بل يسوي في المدخل بين الشريف والمشروف ، والحر والعبد ، والكافر والمسلم .

فإذا دخلا عليه سوى بينهما ، في لحظه ولفظه إن أقبل كان إقباله عليهما ، وإن أعرض كان إعراضه عنهما ، ولا يجوز أن يقبل على أحدهما ، ويعرض على الآخر ، وإن تكلم كان كلامه لهما ، وإن أمسك كان إمساكه عنهما ، ولا يجوز أن يكلم أحدهما ويمسك عن الآخر ، وإن اختلفا في الدين والحرية لئلا يصير ممايلا لأحدهما .

ولا يسمع الدعوى منهما وهما قائمان ، حتى يجلسا بين يديه ، تجاه وجهه ، روى عبد الله بن الزبير قال : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي " وينبغي أن يكون مجلس الخصوم عند القاضي أبعد من مجالس غيرهم ، ليتميز به الخصوم من غيرهم .

ويسوي في المجلس بين الشريف والمشروف ، وبين الحر والعبد ، كما سوى بينهما في الدخول .

[ ص: 276 ] وفي التسوية بين المسلم والكافر في المجلس وجهان :

أحدهما : يسوي بينهما فيه ، كما سوى بينهما في المدخل والكلام .

والوجه الثاني : يقدم المسلم في الجلوس على الكافر لما روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه اختصم مع يهودي وجد معه درعا ضاعت منه يوم الجمل إلى شريح ، فلما دخلا عليه ، قام شريح عن مجلسه ، حتى جلس فيه علي وجلس شريح واليهودي بين يديه فقال علي : لولا أن خصمي ذمي لجلست معه بين يديك لكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تساووهم في المجالس " .

ولولا ضعف في إسناد هذا الحديث لقدم المسلم على الذمي وجها واحدا ، ولكلا الوجهين مع ضعفه وجه .

فإن اختلف جلوس الخصمين بين يديه ، فتقدم أحدهما على صاحبه ، كان القاضي بالخيار بين أن يؤخر المتقدم ، أو يقدم المتأخر .

والأولى أن ينظر : فإن كان المتقدم قد جلس في مجلس الخصوم ، وتأخر عنه الآخر ، قدمه إليه ، وإن كان المتأخر قد جلس في مجلس الخصوم ، وتقدم عليه الآخر أخره إليه ، حتى يساويا فيه .

وقد روي أن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب تقاضيا إلى زيد بن ثابت في محاكمة بينهما ، فقصداه في داره فقال زيد لعمر : لو أرسلت إلي لجئتك ، فقال عمر : في بيته يؤتى الحكم فأخذ زيد وسادته ليجلس عليها عمر فقال عمر : هذا أول جورك ، سو بيننا في المجلس فجلسا بين يديه ، ونظر بينهما فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد لأبي : لو عفوت أمير المؤمنين عن اليمين ؟ فقال عمر : ما يدري زيد ما القضاء ، وما على عمر أن يحلف أن هذه أرض وهذه سماء .

ومن عادة جلوس الخصوم ، أن يجلسوا في التحاكم بروكا على الركب ؛ لأنه عادة العرب في التنازع ، وعرف الحكام في الأحكام .

فإن كان التخاصم بين النساء ، جلسن متربعات ، بخلاف الرجال ، لأنه أستر لهن .

وإن كان بين رجل وامرأة ، برك الرجل وتربعت المرأة ، لأنه عرف لجنسها فلم يصر تفضيلا لها .

[ ص: 277 ] والأولى بالقاضي أن لا يشرك بين الرجال والنساء في مجلس النظر ، ويجعل للنساء وقتا ، وللرجال وقتا .

ولا يحضر تخاصم النساء من الرجال من يستغني عن حضوره .

وقد اختير للحاكم عند تحاكم النساء أن يكون الواقف بين يديه لترتيب الخصوم خصيا .

وإن كان التحاكم بين رجل وامرأة ، فالأولى أن لا ينظر بينهما عند تحاكم الرجال ، لأجل المرأة ، ولا ينظر بينهما ، عند تحاكم النساء لأجل الرجل ، ويجعل لهما وقتا غير هذين .

وإذا جلس الخصمان تقاربا إلا أن يكون أحدهما رجلا والآخر امرأة ليست بذات محرم فيتباعدا ولا يتلاصقا ، وأبعد ما يكون من بين الخصمين أن يسمع كل واحد منهما كلام صاحبه .

وعلى القاضي أن يسمع كلام الخصمين من غير ضجر ، ولا انتهار ، لأن ضجره عليهما مسقط لما عليه من حقهما ، وانتهاره لهما مضعف لنفوسهما ، إلا أن يكون منهما لغط فينتهرهما ، أو ينتهر اللاغط منهما .

فإن أمسكا عن الكلام بعد جلوسهما ، قال القاضي : يتكلم من شاء منكما ، والأولى أن يقوله القائم بين يديه : لأنه أحفظ لحشمته .

فإن تنازعا في الكلام كفهما عن التنازع ، حتى يتفقا على المبتدئ منهما .

فإن أقاما على التنازع ويبتدئ بالكلام من قرع .

والوجه الثاني : يصرفهما حتى يتفقا على المبتدئ .

التالي السابق


الخدمات العلمية