في المنع من
القضاء على الغائب .
فصل : واستدل من منع القضاء على الغائب لقوله تعالى :
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [ النور : 48 ] . فدل هذا الذم على وجوب الحضور للحكم ولو نفذ الحكم مع الغيبة لم يجب الحضور ولم يستحق الذم .
وبما رواه
سماك ، عن
حنش بن المعتمر الصنعاني ، عن
علي بن أبي طالب قال : ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
اليمن وقال لي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925601 " يا علي : إن الناس سيتقاضون إليك ، فإن أتاك الخصمان فلا تقضين لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء وتعلم لمن الحق " قال علي : فما شككت في قضاء بعد . قالوا فهذا نص في المنع من الحكم إلا بعد سماع قول الخصم ، فمنع هذا من القضاء على الغائب شرعا .
ثم منع منه عرفا قول الشاعر .
[ ص: 298 ] حضروا وغبنا عنهم فتحكموا فينا وليس كغائب من يشهد
قالوا : ولأنه حكم على غير مأيوس من إقراره فوجب أن لا يحكم عليه بالبينة قبل إنكاره كالحاضر .
قالوا : ولأن فصل الحكم قد يكون ببينة المدعي تارة ، وبيمين المنكر أخرى ، فلما لم يجز فصل الحكم بيمين المنكر مع غيبة المدعي ، لم يجز فصله ببينة المدعي مع غيبة المدعى عليه ، وتحريره قياسا : أنها حجة أحد المتداعيين فلم يجز الحكم بها مع غيبة الآخر كاليمين .
قالوا : ولأن الحكم يكون للغائب تارة وعليه أخرى ، فلما لم يجز الحكم للغائب كان أولى أن لا يجوز الحكم على الغائب .
وتحريره قياسا أن من لم يجز الحكم له لم يجز الحكم عليه كالحاضر .
ودليلنا : قول الله تعالى :
ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق [ ص : 26 ] وما شهدته به البينة على الغائب حق ، فوجب الحكم به .
وروى
أبو موسى الأشعري قال : "
كان إذا حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمان فتواعد موعدا فوفى أحدهما ولم يف الآخر قضى للذي وفى على الذي لم يف " ومعلوم أنه لا يقضي له بدعواه فثبت أنه قضى له بالبينة .
وروي أن
هند بنت عتبة زوجة
أبي سفيان بن حرب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله إن
أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت من ماله سرا فهل علي في ذلك من حرج ، فقال لها : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923666خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وهذا قضاء منه على غائب ؛ لأن
أبا سفيان لم يحضر " .
فإن قيل : فهذا منه فتيا وليس بحكم ، قيل : بل هو حكم ؛ لأنه قال لها : " خذي " ولو كان فتيا ، لقال : يجوز أن تأخذي . فإن قيل فقد حكم بغير بينة .
قيل : قد علم أنها زوجة
أبي سفيان فلم يحتج إلى بينة .
فإن قيل : فهو حكم بمجهول ، لأنه قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
وقيل : لأن الواجب لها ولولدها معتبر بالكفاية ، والحكم بالواجب غير مجهول .
ولأن القضاء على الغائب إجماع :
روي عن
عمر بن الخطاب أنه قال : ألا إن
أسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال قد سبق الحاج فأدان معرضا ، فأصبح قد دين به فمن كان له عليه دين فليحضر غدا لنقسم ماله بينهم بالحصص ، وليس له مع انتشار قوله في الناس مخالف فكان إجماعا .
[ ص: 299 ] ومن القياس أن من جاز سماع البينة عليه جاز الحكم بها عليه كالحاضر ، ولأن ما تأخر عن سؤال المدعى عليه إذا كان حاضرا يقدم على سؤاله إذا كان غائبا كسماع البينة .
فإن قيل : سماع البينة تحمل ، فجاز مع الغيبة كالشهادة على الشهادة .
قيل : التحمل لا تعتبر فيه الدعوى ، كما لا تعتبر في الشهادة على الشهادة ، وسماع البينة على الغائب يعتبر فيها تقدم الدعوى ، فثبت أنه للحكم دون التحمل .
ولأن
أبا حنيفة قد وافق في القضاء على الغائب في مسائل هي حجة عليه فيما عداها :
فمنها أن رجلا لو
حضر فادعى أنه وكيل لفلان الغائب في قبض ديونه وأنكر من عليه الدين وكالته ، فأقام الوكيل البينة بالوكالة حكم بها على الغائب وجعل للوكيل قبض الدين من الحاضر .
ومنها أن
شفيعا لو ادعى على حاضر ابتياع دار من غائب يستحق شفعتها فأنكر الحاضر الشراء ، فأقام الشفيع البينة بالابتياع ؛ حكم على الغائب بالبيع وعلى الحاضر بالشراء وأوجب الشفعة للشفيع .
ومنها أن امرأة لو
ادعت أنها زوجة فلان الغائب وأن هذا ولده منها وأقامت البينة وسألت أن يحكم لها عليه بنفقتها ونفقة ولدها في ماله الحاضر ؛ جاز للحاكم أن يحكم عليه بذلك وهو غائب .
ومنها أن حاضرا لو
ادعى أنه باع عبده هذا على فلان الغائب وقد منعه ثمنه وأقام بذلك بينة ؛ حكم على الغائب بالشراء وباع عليه العبد وقضاه حقه من ثمنه .
ومنها أن
عبدا لو قطعت يده فأقام البينة على أن مولاه الغائب أعتقه ليقتص منه يده قضى على الغائب بعتقه ، وحكم له بالقصاص من يده إلى غير ذلك من أشباه هذه المسائل ، فكذلك فيما عداها .
فإن قيل : إن هذا يتعلق بحاضر ، قيل : فالحكم على الغائب وإن تعلق بحاضر ، فدل على أن الغيبة لا تمنع من نفوذ الحكم عليه لثبوته بالبينة .
ولأن في الامتناع من
القضاء على الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام لحفظها ؛ لأنه يقدر كل مانع منها أن يغيب ، فيبطلها متواريا أو متباعدا ، والشرع يمنع من هذا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=925603إن الله لا يمنع ذا حق حقه " .
ولأن الغائب لو حضر لكان بين إقرار وإنكار فإن أقر فالبينة موافقة ، وإن أنكر فالبينة حجة فلم يكن في الغيبة مانع من الحكم بالبينة في حالتي إقراره وإنكاره .
[ ص: 300 ] فإن قيل إذا اجتمع الإقرار والبينة تعلق الحكم بالإقرار دون البينة .
قيل : هو كذلك إذا كان الإقرار ممكنا وبخلافه إذا كان معتذرا .
فإن قيل لو كان حاضرا لقدر على دفع البينة بالجرح ، ولا يقدر على ذلك مع الغيبة .
قيل : يمكنه بعد الحكم عليه أن يقيم البينة بالجرح فيسقطها وينتقض بها ما تقدم من الحكم ، فلم يمنعه نفوذ الحكم من استدراكه .
فأما الجواب عن الآية : فمن وجهين :
أحدهما : أنها في الحاضر ؛ لأن الدعاء يكون للحاضر دون الغائب .
والثاني : أنه ذمه بالإعراض ، وذمه أحق بوجوب الحكم عليه من إسقاطه عنه .
وأما الجواب عن الخبر فمن وجهين :
أحدهما : أنه قال : إذا أتاك الخصمان فكان واردا في الحاضرين .
والثاني : أن اشتراط ذلك في الحاضر دليل على جوازه في الغائب لعدم الشرط .
وأما الجواب عن قياسه على الحاضر : فهو أن سؤاله ممكن ، وسؤال الغائب متعذر .
وأما الجواب عن قياسه على يمين المنكر ، فهو وجود الدعوى في البينة فجاز الحكم بها ، وعدم الدعوى في يمين المنكر فلم يجز الحكم بها .
وأما الجواب عن قياسه على الحكم للغائب ، فهو أن لصاحب الحق تأخيره وليس لمن عليه الحق تأخيره .